الثلاثاء، 30 سبتمبر 2014

سر الصلاة

 كان سرُّ الصلاة و لُبها إقبال القلب فيها على الله ، و حضوره بكلِّيته بين يديه ، فإذا لم يقبل عليه و اشتغل بغيره و لهى بحديث نفسه ، كان بمنزلة وافد وفد إلى باب الملك معتذرا من خطاياه و زلله مستمطرا سحائب جوده و كرمه و رحمته ، مستطعما له ما يقيت قلبه ، ليقوى به على القيام في خدمته ، فلما وصل إلى باب الملك ، و لم يبق إلا مناجته له ، التفت عن الملك وزاغ عنه يمينا و شمالا ، أو ولاه ظهره ، و اشتغل عنه بأمقت شيء إلى الملك ، و أقلّه عنده قدرا عليه ، فآثره عليه ، و صيَّره قلبة قلبه ، و محلَّ توجهه ، و موضع سرَّه ، و بعث غلمانه و خدمة ليقفوا في خدم طاعة الملك عوضا عنه و يعتذروا عنه ، و ينوبوا عنه في الخدمة ، و الملك يشاهد ذلك و يرى حاله مع هذا ، فكرم الملك وجوده و سعة برّه و إحسانه تأبي أن يصرف عنه تلك الخدم و الأتباع ، فيصيبه من رحمته و إحسانه ؛ لكن فرق بين قسمة الغنائم على أهل السُّهمان من الغانمين ، و بين الرضَّخ لمن لا سهم له : { و لكل درجات ممَّا عملوا و ليُوَفيهم أعمالهم و هم لا يظلَمون }[الأحقاف :19] ، و الله سبحانه و تعالى خلق هذا النوع الإنساني لنفسه و اختصه له ، و خلق كل شيء له ، و من أجله كما في الأثر الإلهي : " ابن آدم خلقتك لنفسي ، و خلقت كلِّ شيء لك ، فبحقي عليك لا تشتغل بما خلقته لك عمَّا خلقتك له " . و في أثر آخر : " ابن آدم خلقتك لنفسي فلا تلعب و تكفلت برزقك فلا تتعب ، ابن آدم اطلبني تجدني ، فإن و جدتني و جدت كلّ شيء ، و إن فُتَّك فاتك كلّ شيء ، و أنا أحب إليك من كلّ شيء". و جعل سبحانه و تعالى الصلاة سببا موصلا إلى قُربه ، و مناجاته ، و محبته و الأنس به .

القلب ييبس إذا خلا من توحيد الله

فكذلك القلب ، إنما يَيبس إذا خلا من توحيد الله و حبه و معرفته و ذكره و دعائه ، فتصيبه حرارة النفس ، و نار الشهوات ، فتمتنع أغصان الجوارح من الامتداد إذا مددتها ، و الانقياد إذا قُدتها ، فلا تصلح بعدُ هي و الشجرة إلا للنَّار { فويلٌ للقاسية قُلوبهم مِّن ذكر الله أولئك في ضلال مُّبين} [الزمر :22] ، فإذا كان القلب ممطورا بمطر الرحمة ، كانت الأغصان ليِّنة مُنقادة رطبة ، فإذا مددتها إلى أمر الله انقادت معك ، و أقبلت سريعة لينة وادعة ، فجنيت منها من ثمار العبودية ما يحمله كل غصن من تلك الأغصان و مادتها من رطوبة القلب و ريِّه ، فالمادة تعمل عملها في القلب و الجوارح ، و إذا يبس القلب تعطلت الأغصان من أعمال البِّر ؛ لأن مادة القلب و حياته قد انقطعت منه فلم تنتشر في الجوارح ، فتحمل كل جارحة ثمرها من العبودية ، و لله في كل جارحة من جوارح العبد عبودية تخُصُّه ، و طاعة مطلوبة منها ، خلقت لأجلها و هيئت لها .

فصل أسرار الصَّلاة للإمَام العلامَة ابن قيِّم

فاعلم أنه لا ريب أن الصلاة قرة عُيون المحبين ، و لذة أرواح الموحدين ، و بستان العابدين و لذة نفوس الخاشعين ، و محك أحوال الصادقين ، و ميزان أحوال السالكين ، و هي رحمةُ الله المهداة إلى عباده المؤمنين . هداهم إليها ، و عرَّفهم بها ، و أهداها إليهم على يد رسوله الصادق الأمين ، رحمة بهم ، و إكراما لهم ، لينالوا بها شرف كرامته ، و الفوز بقربه لا لحاجة منه إليهم ، بل منَّة منه ، و تفضَّلا عليهم ، و تعبَّد بها قلوبهم و جوارحهم جميعا ، و جعل حظ القلب العارف منها أكمل الحظين و أعظمهما ؛ و هو إقباله على ربِّه سبحانه ، و فرحه و تلذذه بقربه ، و تنعمه بحبه ، و ابتهاجه بالقيام بين يديه ، و انصرافه حال القيام له بالعبودية عن الالتفات إلى غير معبوده ، و تكميله حقوق حقوق عبوديته ظاهرا و باطنا حتى تقع على الوجه الذي يرضاه ربه سبحانه. و لما امتحن الله سبحانه عبده بالشهوة و أشباهها من داخل فيه و خارج عنه ، اقتضت تمام رحمته به و إحسانه إليه أن هيأ له مأدبة قد جمعت من جميع الألوان و التحف و التحف و الخلع و الخلع و العطايا ، و دعاه إليها كل يوم خمس مرَّات ، و جعل في كل لون من ألوان تلك المأدبة ، لذة و منفعة و مصلحة و وقار لهذا العبد ، الذي قد دعاه إلى تلك المأدبة ليست في اللون الآخر ، لتكمل لذة عبده في كل من ألوان العبودية و يُكرمه بكلِّ صنفٍ من أصناف الكرامة ، و يكون كل فعل من أفعال تلك العبودية مُكفّرا لمذموم كان يكرهه بإزائه ، و يثيبه عليه نورا خاصا ، فإن الصلاة نور و قوة في قلبه و جوارحه و سعة في رزقه ، و محبة في العباد له ، و إن الملائكة لتفرح و كذلك بقاع الأرض ، و جبالها و أشجارها ، و أنهارها تكون له نورا و ثوابا خاصا يوم لقائه. فيصدر المدعو من هذه المأدبة و قد أشبعه و قد أشبعه و أرواه ، و خلع عليه بخلع القبول ، و أغناه ، و ذلك أن قلبه كان قبل أن يأتي هذه المأدبة ، قد ناله من الجوع و القحط و الجذب و الظمأ و العري و السقم ما ناله ، فصدر من عنده و قد أغناه و أعطاه من الطعام و الشراب و اللباس و التحف ما يغنيه .

مَنْ أَوى إلى فِراشِهِ طاهِراً

عن أبي أمامة قال: سمعْتُ رسول الله يقول: (( مَنْ أَوى إلى فِراشِهِ طاهِراً....لمْ يَنقلِبْ ساعَةً من اللَّيلِ يَسألُ الله شيئاً مِنْ خيرِ الدُّنيا والآخِرِة, إلا أعْطاهُ الله إِياهُ ))

من تعار من الليل

عن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه عن النبي قال: «من تعار_اى استيقظ_من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله». ثم قال: «اللهم اغفر لي أو دعا استجيب له فإن توضأ وصلى قبلت صلاته»

توكل على الله فهو حسبك

قال تعالى: {وتوكل على الحي الذي لا يموت} [الفرقان (58) ] .
----------------
وفيه: إشارة إلى أن من توكل على غير الله فقد ضاع؛ لأنه يموت. قال تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} [القصص (88) ]

إياك وأربعاً أربعٌ

إياك وأربعاً أربعٌ تُورثُ ضنْكَ المعيشةِ وكَدَرَ الخاطرِ وضيِقَ الصَّدْرِ : الأولى : التَّسخُّطُ من قضاءِ اللهِ وقدرِه ، وعَدَمُ الرِّضا بهِ . الثانيةُ : الوقوعُ في المعاصي بلا توبةٍ ﴿ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ ﴾ ،﴿ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾ . الثالثةُ : الحقدُ على الناسِ ، وحُبُّ الانتقامِ منهمْ ، وحَسَدُهم على ما آتاهُمُ اللهُ منْ فضلِه ﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ ﴾ ، (( لا راحة لحسودِ )) . الرابعةُ : الإعراضُ عنْ ذكرِ اللهِ ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ﴾ .

أكثر من الاستغفار

أكثر من الاستغفار ﴿ فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا{10} يرسل السماء عليكم مدرارا{11} ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا﴾ . فأكثر من الاستغفار ، لترى الفرح وراحة البال ، والرزق الحلال ، والذرية الصالحة ، والغيث الغزير . ﴿ وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله ﴾ . وفي الحديث : (( من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ، ومن كل ضيق مخرجا )) .

تحريم الظلم

عن أبي ذر ( عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله -تبارك وتعالى- أنه قال: (( يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا، يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه )) . قال سعيد: وكان أبو إدريس الخولاني إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه

وليعلم البالغ أنه من يوم بلوغه وجب عليه معرفة الله تعالى بالدليل لا بالتقليد

قال ابن الجوزى: وليعلم البالغ أنه من يوم بلوغه وجب عليه معرفة الله تعالى بالدليل لا بالتقليد، ويكفيه من الدليل رؤية نفسه وترتيب أعضائه، فيعلم أنه لا بد لهذا الترتيب من مرتب، كما أنه لا بد للبناء من بان. ويعلم أنه نزل إليه ملكان يصبحانه طول دهره، ويكتبان عمله، ويعرضانه على الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: (وَإِن عَلَيكُم لَحافِظين كِراماً كاتِبين يَعلَمونَ ما تَفعَلون). قال (محمد بن الفضل): منذ أربعين سنة ما أمليت على كاتبي سيئة، ولو فعلت لاتسحيت منهما. فلينظر العبد فيما يرتفع من عمله، فإن زل فليرفع الزلل بتوبة واستدراك. وليغض طرفه؛ فقد قال الله عز وجل: (قُل لِلمُؤمِنينَ يَغضوا مِن أَبصارَهُم). ويقول الله عز وجل: (النظر إلى المرأة سهم مسموم من سهام الشيطان، من تركه ابتغاء مرضاة الله آتيته إيماناً يجد حلاوته في قلبه). ومن استعمل الغض سلم. وليكتف بالمرأة الواحدة، ولا يترخص في كثرة الاستمتاع بالنساء؛ فإنه يشتت القلب، ويضعف القوى، وليس لذلك منتهى. كان بعض السلف يقول لنفسه: ما ههنا إلا هذه الكسرة وهذه المرأة، فإن شئت فاصبري، أو فموتي. وكان خلق كثير يتأسفون في حال الكبر على تضييع موسم الشباب، ويبكون على التفريط فيه. فليطل القيام من سيقعد، وليكثر الصيام من سيعجز. والناس ثلاثة: من ابتكر عمره بالخير ودام عليه فذلك من الفائزين، ومن خلط وقصر فذلك من الخاسرين، ومن صاحب التفريط والمعاصي فذلك من الهالكين.

مواسم العمر خمسة

قال ابن الجوزى: اعلم وفقك الله تعالى أن مواسم العمر خمسة: الموسم الأول: من وقت الولادة إلى زمان البلوغ، وذلك، خمس عشر سنة. والثاني: من زمان بلوغه إلى نهاية شبابه، وذلك إلى تمام خمس وثلاثين سنة، (وهو زمن الشباب). والثالث: من ذلك الزمان إلى تمام خمسين سنة، وذلك زمان الكهولة. وقد يقال: (كهلِ) لما قبل ذلك. الرابع: من بعد الخمسين إلى تمام السبعين، وذلك زمان الشيخوخة. والخامس: ما بعد السبعين إلى آخر العمر، فهو زمن الهرم.

الأحد، 28 سبتمبر 2014

لا اله الا الله محمد رسول الله

لا اله الا الله محمد رسول الله 

اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمد رسول الله 

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد من صلى عليه وعدد من لم يصلى عليه 


استغفر الله العظيم

استغفر الله العظيم واتوب اليه 
استغفر الله 
استغفر الله واتوب اليه 
استغفر الله الذي لا اله الا هو الحي القيوم واتوب اليه 
استغفر الله العظيم 

تعليم الصلاة

الصلاة


وصف موجز لرسولنا صلى الله عليه وسلم

وصف رسولنا صلى الله عليه وسلم أو نقل ما وصفه به أصحابه الذين كان لهم شرف رؤية هذا النبي الحبيب صلى الله عليه وسلم وجملة ما قالوه :
أنه كان صلى الله عليه وسلم سبط الشعر بمعنى أن شعره لم يكن مسترسلا ولم يكن ناعماً , أقنى الأنف أجلى الجبهة .
في جبينه أو في جبهته عرق يدره الغضب , إذا غضب في ذات الله امتلئ هذا العرق دماً , كان أزج الحواجب في غير قرن .
أشم الأنف , طويل أشفار العينين , ضليع الفم أي كبير الفم , مهذب الأسنان .
كث اللحية , الشيب فيه ندرة صلوات الله وسلامه عليه وأكثر شيبه في صدغيه الأيمن والأيسر وأكثر شيبه أسفل شفته السفلى في عنفقته .
عريض المنكبين, كأن عنقه إبريق فضه, من وهدة نحره إلى أسفل سرته شعر ممتد ليس في بطنه ولا صدره شعر غيره, كان ينعت بقوله دقيق المسربة (أي لا يوجد في بطنه وصدره شعر سوى من وهدة نحره إلى سرته خط دقيق من الشعر ) .
إذا أشار , أشار بيده كلها , وإذا تعجب من شيء قلب كفيه و قال ( سبحان الله ) . وعند البخاري في الأدب المفرد بسند صحيح ( أنه كان إذا تعجب من شيء عض على شفتيه ) صلوات الله وسلامه عليه .
من رآه من بعيد هابه . ومن رآه من قريب أحبه , يقول علي رضي الله عنه " لم أر قبله ولا بعده أفضل منه " . ونحن على ما قال علي رضي الله عنه من المصدقين المؤمنين .
            فما حملت من ناقة فوق رحلها . . . . أبر و أوفى ذمة من محمد
صلى الله عليه وسلم , ضخم الكراديس أي عظام المفاصل , إذا مشى يمشي يتكفأ تكفؤاً كأنه يتكئ على أمشاط قدميه .

اعرف نبيك محمد صلى الله عليه وسلم 7

مبعثه صلى الله عليه وسلم : 
بعث صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة، فنزل عليه الملك بحراء يوم الاثنين لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان، وكان إذا نزل عليه الوحي اشتد ذلك عليه وتغيّر وجهه وعرق جبينه. 
فلما نزل عليه الملك قال له: اقرأ.. قال: لست بقارئ، فغطاه الملك حتى بلغ منه الجهد، ثم قال له: اقرأ.. فقال: لست بقارئ ثلاثاً. ثم قال: { اقْرأْ بِاسْمِ رَبّكَ الَّذي خَلَقَ، خَلَقَ الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ ورَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [العلق:1-5]. فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خديجة رضي الله عنها يرتجف، فأخبرها بما حدث له، فثبتته وقالت: أبشر، وكلا والله لا يخزيك أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحملُّ الكَلَّ، وتعين على نوائب الدهر. 
ثم فتر الوحي، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يمكث لا يرى شيئاً، فاغتم لذلك واشتاق إلى نزول الوحي، ثم تبدى له الملك بين السماء والأرض على كرسيّ، وثبته، وبشره بأنه رسول الله حقاً، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم خاف منه وذهب إلى خديجة وقال: زملوني.. دثروني، فأنزل الله عليه: { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّر، وَثِيَابَكَ فَطَهِّر } [المدثر:1-4]. فأمر الله تعالى في هذه الآيات أن ينذر قومه، ويدعوهم إلى الله، فشمَّر صلى الله عليه وسلم عن ساق التكليف، وقام في طاعة الله أتم قيام، يدعو إلى الله تعالى الكبير والصغير، والحر والعبد، والرجال والنساء، والأسود والأحمر، فاستجاب له عباد الله من كل قبيلة ممن أراد الله تعالى فوزهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة، فدخلوا في الإسلام على نور وبصيرة، فأخذهم سفهاء مكة بالأذى والعقوبة، وصان الله رسوله وحماه بعمه أبي طالب، فقد كان شريفاً مطاعاً فيهم، نبيلاً بينهم، لا يتجاسرون على مفاجأته بشيء في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يعلمون من محبته له. 
قال ابن الجوزي: وبقي ثلاث سنين يتستر بالنبوة، ثم نزل عليه: { فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَر } [الحجر:94]. فأعلن الدعاء. فلما نزل قوله تعالى: { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ } [الشعراء:214]، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فهتف ( يا صباحاه! ) فقالوا: من هذا الذي يهتف؟ قالوا: محمد! فاجتمعوا إليه فقال: ( أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟ قالوا ما جربنا عليك كذباً. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تباً لك، أما جمعتنا إلا لهذا؟ ثم قام، فنزل قوله تعالى: { تَبَّتْ يَدَا أبِي لَهَبٍ وَتَبْ } إلى آخر السورة. [متفق عليه]. 

صبره صلى الله عليه وسلم على الأذى: 
ولقي صلى الله عليه وسلم الشدائد من قومه وهو صابر محتسب، وأمر أصحابه أن يخرجوا إلى أرض الحبشة فرارا من الظلم والاضطهاد فخرجوا.
قال ابن إسحاق: فلما مات أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تطمع فيه حياته، وروى أبو نعيم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: { لما مات أبو طالب تجهَّموا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا عم ما أسرع ما وجدت فقدك }. 
وفي الصحيحين: أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي، وسلا جزورٍ قريب منه، فأخذه عقبة بن أبي معيط، فألقاه على ظهره، فلم يزل ساجداً، حتى جاءت فاطمة فألقنه عن ظهره، فقال حينئذ: { اللهم عليك بالملأ من قريش }. وفي أفراد البخاري: أن عقبة بن أبي معيط أخذ يوماً بمنكبه صلى الله عليه وسلم ، ولوى ثوبه في عنقه، فخنقه به خنقاً شديداً، فجاء أبو بكر فدفعه عنه وقال أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟ 

رحمته صلى الله عليه وسلم بقومه: 
فلما اشتد الأذى على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أبي طالب وخديجة رضي الله عنها، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف فدعا قبائل ثقيف إلى الإسلام، فلم يجد منهم إلا العناد والسخرية والأذى، ورموه بالحجارة حتى أدموا عقبيه، فقرر صلى الله عليه وسلم الرجوع إلى مكة. قال صلى الله عليه وسلم : { انطلقت – يعني من الطائف – وأنا مهموم على وجهي، فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب – ميقات أهل نجد – فرفعت رأسي فإذا سحابة قد أظلتني، فنظرت، فإذا فيها جبريل عليه السلام، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردّوا عليك، وقد أرسل لك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، ثم ناداني ملك الجبال، قد بعثني إليك ربك لتأمرني بما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين – جبلان بمكة – فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً } [متفق عليه]. 
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في كل موسم، فيعرض نفسه على القبائل ويقول: { من يؤويني؟ من ينصرني؟ فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي! }. 
ثم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي عند العقبة في الموسم ستة نفر فدعاهم فأسلموا، ثم رجعوا إلى المدينة فدعوا قومهم، حتى فشا الإسلام فيهم، ثم كانت بيعة العقبة الأولى والثانية، وكانت سراً، فلما تمت أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان معه من المسلمين بالهجرة إلى المدينة، فخرجوا أرسالاً. 

هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة: 
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر إلى المدينة فتوجه إلى غار ثور، فأقاما فيه ثلاثاً، وعني أمرهم على قريش، ثم دخل المدينة فتلقاه أهلها بالرحب والسعة، فبنى فيها مسجده ومنزله. 

غزواته صلى الله عليه وسلم : 
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم إنا لله وإنا إليه راجعون، لَيهَلِكُنَّ، فأنزل الله عز وجل: { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } [الحج:39]. وهي أول آية نزلت في القتال. وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعاً وعشرين غزاة، قاتل منها في تسع: بدر، وأحد، والريسيع، والخندق، وقريظة، وخيبر، والفتح، وحنين، والطائف، وبعثَ ستاً وخمسين سرية. 

حج النبي صلى الله عليه وسلم واعتماره : 
لم يحج النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن هاجر إلى المدينة إلا حجة واحدة، وهي حجة الوداع. فالأولى عمرة الحديبية التي صدّه المشركون عنها. والثانية عمرة القضاء، والثالثة عمرة الجعرانة، والرابعة عمرته مع حجته. 

صفته صلى الله عليه وسلم : 
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربعة، ليس بالطويل ولا بالقصير، أزهر اللون - أي أبيض بياضاً مشرباً بحمرة - أشعر، أدعج العينين –أي شديد سوادهما – أجرد –أي لا يغطي الشعر صدره وبطنه -، ذو مَسرُبه – أي له شعر يكون في وسط الصدر والبطن. 

أخلاقه صلى الله عليه وسلم : 
كان صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وأصدقهم لهجة، وألينهم طبعاً، وأكرمهم عشرة، قال تعالى: { َإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظيمٍ } [القلم:4]. وكان صلى الله عليه وسلم أشجع الناس وأعف الناس وأكثرهم تواضعاً، وكان صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها، يقبل الهدية ويكافئ عليها، ولا يقبل الصدقة ولا يأكلها، ولا يغضب لنفسه، وإنما يغضب لربه، وكان صلى الله عليه وسلم يأكل ما وجد، ولا يدُّ ما حضر، ولا يتكلف ما لم يحضره، وكان لا يأكل متكئاً ولا على خوان، وكان يمر به الهلال ثم الهلال ثم الهلال، وما يوقد في أبياته صلى الله عليه وسلم نار، وكان صلى الله عليه وسلم يجالس الفقراء والمساكين ويعود المرضى ويمشي في الجنائز. 
وكان صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقاً، ويضحك من غير قهقهة، وكان صلى الله عليه وسلم في مهنة أهله، وقال: { خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي } [الترمذي وصححه الألباني]، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لشيء فعلته: لم فعلته، ولا لشيء لم أفعله، ألا فعلت كذا!!. 
وما زال صلى الله عليه وسلم يلطف بالخلق ويريهم المعجزات، فانشق له القمر، ونبع الماء من بين أصابعه، وحنَّ إليه الجذع، وشكا إليه الجمل، وأخبر بالغيوب فكانت كما قال. 

فضله صلى الله عليه وسلم : 
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: { أعطيت خمساً لم يعطهن أحدٌ قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه، وبعثت إلى الناس كافة } [متفق عليه]. وفي أفراد مسلم من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: { أنا أول الناس يشفع يوم القيامة، وأنا أكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة، وأنا أول من يقرع باب الجنة }. وفي أفراده من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: { أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشقُّ عنه القبر، وأول شافع وأول مُشفع }. 

عبادته ومعيشته صلى الله عليه وسلم : قالت عائشة رضي الله عنها: { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم حتى تتفطر قدماه، فقيل له في ذلك، فقال: أفلا أكون عبداً شكوراً } [متفق عليه]، وقالت: وكان مضجعه الذي ينام عليه في الليل من أَدَمَ محشوّاً ليفاً!! وفي حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظلُّ اليوم يَلتَوي ما يجد دِقْلاً يملأ بطنه – والدقل ردئ التمر -!! ما ضره من الدنيا ما فات وهو سيد الأحياء والأموات، فالحمد لله الذي جعلنا من أمته، ووفقنا الله لطاعته، وحشرنا على كتابه وسنته آمين، آمين. 

اعرف نبيك محمد صلى الله عليه وسلم 6

زواجه صلى الله عليه وسلم : 
تزوجته خديجة وله خمس وعشرون سنة، وكان قد خرج إلى الشام في تجارة لها مع غلامها ميسرة، فرأى ميسرة ما بهره من شأنه، وما كان يتحلى به من الصدق والأمانة، فلما رجع أخبر سيدته بما رأى، فرغبت إليه أن يتزوجها. 
وماتت خديجة رضي الله عنها قبل الهجرة بثلاث سنين، ولم يتزوج غيرها حتى ماتت، فلما ماتت خديجة رضي الله عنها تزوج عليه السلام سودة بنت زمعة، ثم تزوج صلى الله عليه وسلم عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، ولم يتزوج بكراً غيرها، ثم تزوج حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، ثم تزوج زينب بنت خزيمة بن الحارث رضي الله عنها، وتزوج أم سلمة واسمها هند بنت أمية رضي الله عنها، وتزوج زينب بنت جحش رضي الله عنها، ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية بنت الحارث رضي الله عنها، ثم تزوج أم حبيبة رضي الله عنها واسمها رملة وقيل هند بنت أبي سفيان. وتزوج إثر فتح خيبر صفية بنت حييّ بن أخطب رضي الله عنها، ثم تزوج ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها، وهي آخر من تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم . 

أولاده صلى الله عليه وسلم : 
كل أولاده صلى الله عليه وسلم من ذكر وأنثى من خديجة بنت خويلد، إلا إبراهيم، فإنه من مارية القبطية التي أهداها له المقوقس. 

فالذكور من ولده: 
القاسم وبه كان يُكنى، وعاش أياماً يسيرة، والطاهر والطيب. 
وقيل: ولدت له عبدالله في الإسلام فلقب بالطاهر والطيب. أما إبراهيم فولد بالمدينة وعاش عامين غير شهرين ومات قبله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر. 

بناته صلى الله عليه وسلم : 
زينب وهي أكبر بناته، وتزوجها أبو العاص بن الربيع وهو ابن خالتها، ورقية تزوجها عثمان بن عفان رضي الله عنه، وفاطمة تزوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأنجبت له الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأم كلثوم تزوجها عثمان بن عفان رضي الله عنه بعد رقية رضي الله عنهن جميعاً. قال النووي: فالبنات أربع بلا خلاف. والبنون ثلاثة على الصحيح. 

اعرف نبيك محمد صلى الله عليه وسلم 5

رضاعه صلى الله عليه وسلم : 
أرضعته ثويبة مولاة أبي لهب أياماً، ثم استُرضع له في بني سعد، فأرضعته حليمة السعدية، وأقام عندها في بني سعد نحواً من أربع سنين، وشُقَّ عن فؤاده هناك، واستخرج منه حظُّ النفس والشيطان، فردته حليمة إلى أمه إثر ذلك. 
ثم ماتت أمه بالأبواء وهو ذاهب إلى مكة وهو ابن ست سنين، ولما مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبواء وهو ذاهب إلى مكة عام الفتح، استأذن ربّه في زيارة قبر أمه فأذن له، فبكى وأبكى من حوله وقال: { زوروا القبور فإنها تذكر بالموت } [مسلم]. فلما ماتت أمه حضنته أم أيمن وهي مولاته ورثها من أبيه، وكفله جده عبد المطلب، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من العمر ثماني سنين توفي جده، وأوصى به إلى عمه أبي طالب فكفله، وحاطه أتم حياطة، ونصره وآزره حين بعثه الله أعزّ نصر وأتم مؤازرة مع أنه كان مستمراً على شركه إلى أن مات، فخفف الله بذلك من عذابه كما صح الحديث بذلك. 

صيانة الله تعالى له صلى الله عليه وسلم من دنس الجاهلية: 
وكان الله سبحانه وتعالى قد صانه وحماه من صغره، وطهره من دنس الجاهلية ومن كل عيب، ومنحه كل خُلقٍ جميل، حتى لم يكن يعرف بين قومه إلا بالأمين، لما شاهدوه من طهارته وصدق حديثه وأمانته، حتى أنه لما أرادت قريش تجديد بناء الكعبة في سنة خمس وثلاثين من عمره، فوصلوا إلى موضع الحجر الأسود اختلفوا فيمن يضعه أول داخل عليهم، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: جاء الأمين، فرضوا به، فأمر بثوبٍ، فوضع الحجر في وسطه، وأمر كل قبيلة أن ترفع بجانب من جوانب الثوب، ثم أخذ الحجر فوضعه موضعه صلى الله عليه وسلم . [أحمد والحاكم وصححه]. 

اعرف نبيك محمد صلى الله عليه وسلم 4

ولادته صلى الله عليه وسلم : ولد صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين في شهر ربيع الأول، قيل في الثاني منه، وقيل في الثامن، وقيل في العاشر، وقيل في الثاني عشر. قال ابن كثير: والصحيح أنه ولد عام الفيل، وقد حكاه إبراهيم بن المنذر الحزامي شيخ البخاري، وخليفة بن خياط وغيرهما إجماعاً. 

قال علماء السير: لما حملت به آمنة قالت: ما وجدت له ثقلاً، فلما ظهر خرج معه نور أضاء ما بين المشرق والمغرب. 
وفي حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: { إني عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدلٌ في طينته، وسأنبئكم بتأويل ذلك، دعوة إبراهيم، وبشارة عيسى قومه، ورؤيا أمي التي رأت، انه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام } [أحمد والطبراني]. 
وتوفي أبوه صلى الله عليه وسلم وهو حَمْل في بطن أمه، وقيل بعد ولادته بأشهر وقيل بسنة، والمشهور الأول. 

اعرف نبيك محمد صلى الله عليه وسلم 3

طهارة نسبه صلى الله عليه وسلم : 
اعلم رحمني الله وإياك أن نبينا المصطفى على الخلق كله قد صان الله أباه من زلة الزنا، فولد صلى الله عليه وسلم من نكاح صحيح ولم يولد من سفاح، فعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: { إن الله عز وجل اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم } [مسلم]، وحينما سأل هرقل أبا سفيان عن نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: { هو فينا ذو نسب، فقال هرقل: كذلك الرسل تبعث في نسب قومها } [البخاري]. 

اعرف نبيك محمد صلى الله عليه وسلم 2

أسماؤه صلى الله عليه وسلم : 
عن جبير بن مطعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: { إن لي أسماء، وأنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدميَّ، وأنا العاقب الذي ليس بعده أحد } [متفق عليه]. وعن أبي موسى الأشعري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمي لنا نفسه أسماء فقال: { أنا محمد، وأحمد، والمقفي، والحاشر، ونبي التوبة، ونبي الرحمة } [مسلم]. 

اعرف نبيك محمد صلى الله عليه وسلم 1


الحمد لله الذي أوضح لنا سبيل الهداية، وأزاح عن بصائرنا ظلمة الغواية، والصلاة والسلام على النبي المصطفى والرسول المجتبى، المبعوث رحمة للعالمين، وقدوة للمالكين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. 
أما بعد: 

أيها المسلمون: إن من خير ما بذلت فيه الأوقات، و شغلت به الساعات هو دراسة السيرة النبوية العطرة، والأيام المحمدية الخالدة، فهي تجعل المسلم كأنه يعيش تلك الأحداث العظام التي مرت بالمسلمين، وربما تخيل أنه واحد من هؤلاء الكرام البررة التي قامت على عواتقهم صروح المجد ونخوة البطولة. 
وفي السيرة يتعرف المسلم على جوانب متعددة من شخصية النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم ، وأسلوبه في حياته ومعيشته، ودعوته في السلم والحرب. 
وفيها أيضاً: يتلمس المسلم نقاط الضعف والقوة؛ وأسباب النصر والهزيمة، وكيفية التعامل مع الأحداث وإن عظمت. 
وبدراسة السيرة النبوية يستعيد المسلمون ثقتهم بأنفسهم، ويوقنون بأن الله معهم وناصرهم، إن هم قامو بحقيقة العبودية، له والانقياد لشريعته: { إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } [محمد:7]، { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } [غافر:51]. { وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [الحج:40]. 

وهذه عبارة عن رؤوس أقلام وجمل يسيرة في سيرة النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام، قصد بها فتح الطريق أمام ناشئة المسلمين وشبيبتهم لدراسات أعمق لهذه السيرة النبوية الخالدة. قال الله تعالى: { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ } [الفتح:29]. 

نسبه صلى الله عليه وسلم : 
هو أبو القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. هذا هو المتفق عليه في نسبه صلى الله عليه وسلم واتفقوا أيضاً أن عدنان من ولد إسماعيل عليه السلام. 

ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين و الصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف المرسلين.
محمد صلى الله عليه وسلم هو الأعظم إنه بحق الأعظم كيف لا وقد اصطفاه الله على بني آدم وهو خاتم الأنبياء والمرسلين أرسله ربه رحمة للعالمين ليخرج الناس من الظلمات إلى النور .
إنه الأعظم فإذا كان في البشرية من يستحق العظمة فهو محمد ، هذا كلام علماء الغرب المنصفين . والمسلمين يؤمنون به ويحترمونه ويوقرونه ويبجلونه . فهو قدوتنا العليا وهو شفيعنا يوم القيامة وقائدنا إلى الجنة . إن محمداً صلى الله عليه وسلم يستحق العظمة . كيف لا وقد أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور وهداهم إلى صراط مستقيم .
عن أنس : أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بالبراق ليلة أسري به ملجماً مسرجاً، فاستصعب عليه ، فقال له جبريل : أبمحمد تفعل هذا ؟ فما ركبك أحد أكرم على الله منه . قال : فارفض عرقاً .
إنه " رجل واحد في مقابل جميع الرجال " ، الذي استطاع بنصر الله له وبصدق عزيمته وبإخلاصه في دعوته أن يقف أمام الجميع ليدحض الباطل ويُظهر الحق حتى يحق الله الحق بكلماته ولو كره الكافرون .
إن هذا الرجل العظيم الذي استطاع أن يقف أمام العالم أجمع وأمام جهالات قريش وكفرها العنيد وأمام الأصنام وعبادة الكواكب وكل ما يعبد من دون الله وقف يدعو الله وحده لا شريك له ونبذ كل ما سواه ، إنه بحق لجدير بكل تبجيل واحترام ليس فقط من أتباعه بل من كل من يفهموا العبقرية وخصائصها .
إن الصفات التي تفردت في هذا الرسول العظيم لجديرة بأن يحصل على نوط الامتياز ويحظى بكل تقدير واحترام . إنه بحق الأعظم .
فهل بعد ذلك يوجد أي رجل أعظم منه ؟ كلا ، لا يوجد رجل أعظم منه فقد عاش حياته كلها في خدمة البشرية جمعاء وجاء بالدين الخاتم والمسعد لجميع البشر .
إن هذا الرجل العظيم محمد صلى الله عليه وسلم بحق رجل لم تنجب البشرية مثله كيف لا وقد قال عنه الجبار " وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ " .. وقال تعالى " وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ " .
إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم نعمة أنعم الله به علينا فإنه حريٌ بنا حينما نتذكر النعمة نتذكر المنعم بها ونشكره عليها. وهذا الشكر يستوجب منا أن نتمسك بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقاً لقوله تعالى: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} (سورة الأحزاب /آية 21). فما أعظم هذه النعمة وما أعظمك يا رسول الله وقد منحك الله سبحانه من كمالات الدنيا والآخرة ما لم يمنحه غيره من قبله أو بعده . وقد أعطاه الله في الدنيا شرف النسب وكمال الخلقة، وجمال الصورة وقوة العقل، وصحة الفهم وفصاحة اللسان وقوة الحواس والأعضاء، والأخلاق العلية والآداب الشرعية من: الدين، والعلم، والحلم والصبر والزهد والشكر والعدل والتواضع والعفو والعفة والجود والشجاعة والحياء والمروءة والسكينة والتؤدة والوقار والهيبة والرحمة وحسن المعاشرة ما لا يستطاع وصفه وحصره.
فما أعظمك يا رسول الله ولقد صدق ربنا سبحانه وتعالى إذ يقول في شأنك ووصفك{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (سورة القلم/ آية 4).
وها نحن نأتي إلى نبذة يسيرة من محاسن صفاته ومحاسن آدابه لتكون لنا نموذجاً نسير عليه حتى نكون على قدم نبينا صلى الله عليه وسلم.

أعميت عيني عن الدنيا وزينتها --- فأنت والروح شيء غير مفترق
إذا ذكرتك وافى مقلتي أرق --- من أول الليل حتى مطلع الفلق
وما تطابقت الأجفان عن سنةٍ --- إلا وإنك بين الجفن والحدق

نسبه صلى الله عليه وسلم
أما شرف نسبه وكرم بلده ومنشئة فإن نسبه صلى الله عليه وسلم ينتهي إلى إسماعيل بن إبراهيم. نسب شريف وآباء طاهرون وأمهات طاهرات؛ فهو من صميم قريش التي لها القدم الأولى في الشرف وعلو المكانة بين العرب.
ولا تجد في سلسلة آبائه إلا كراماً ليس فيهم مسترذل بل كلهم سادة قادة، وكذلك أمهات آبائه من أرفع قبائلهن وكل اجتماع بين آبائه وأمهاته كان شرعياً بحسب الأصول العربية ولم ينل نسبه شيء من سفاح الجاهلية بل طهره الله من ذلك.
روى مسلم عن واثلة بن الأسقع قال: سمعت رسول الله عليه و سلم يقول: "أن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشاً من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم".

كمال خلقته صلى الله عليه وسلم
أما صورته وجماله وتناسب أعضائه وحسنه فقد جاءت الآثار الصحيحة المشهورة بذلك وكثر الواصفون لحسن جماله صلى الله عليه وسلم ومنها أنه كان أبيض مشرباً بالحمرة، أزهر اللون، ظاهر الوضاءة، واسع الجبين، كث اللحية سخل الخدين، أبيض الأسنان إذا تكلم كأن النور ينهمر من فمه ويكفي في وصفه قول أبو هريرة رضي الله عنه: ما رأيت شيئاً أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن الشمس تجري في وجهه. ووصفه بعض أصحابه فقال: كان رسول الله فخماً مفهماً يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر.
وأخرج البزار بإسناد حسن عن عائشة رضي الله عنها قالت تمثلتُ في أبي:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه --- ربيع اليتامى عصمة للأرامل
فقال أبي(تعني أبا بكر): ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم .
لئن أعطي سيدنا يوسف شطر الجمال فقد أعطي محمد صلى الله عليه وسلم الحسن كلّه .

عظمة خُلقه وحلمه وعفوه
وأما الأخلاق الحميدة والآداب الشريفة فجميعها كانت خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم على الانتهاء في كمالها ويكفيك من ذلك شهادة رب العالمين في إذ يقول( وإنك لعلى خلق عظيم) ،ويقول النبي عن نفسه (أدبني ربي فأحسن تأديبي) ، وفي ذلك قول عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها حين سئلت: كيف كان خلق رسول الله فقالت"كان خلقه القرءان" أي كل خصلة خير في القرءان هي في رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقالت عائشة رضي الله عنها في وصف خلقه أيضاً:"لم يكن رسول الله فاحشاً ولا متفحشاً ولا يجزي السيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح وقالت: ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله تعالى.
وفي حيائه يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها وكان إذا كره شيئاً عرفناه في وجهه" رواه البخاري.
وكان الحلم والعفو مع المقدرة من أوصافه صلى الله عليه وسلم فقد أمره ربه تعالى أن يأخذ العفو من أخلاق الناس فقال تعالى {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف/169).
فما من حليم إلا عرفت له زلة أما نبينا الأعظم عليه الصلاة والسلام فكان لا يزيد مع كثرة الإيذاء إلا صبراً، ومع إسراف الجاهل إلا حلماً. ومما يدل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون" بعدما فعلوا به وبأصحابه ما فعلوا. وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الذين أخرجوه من دياره ونكلوا بهم وقاتلوه وحرضوا عليه قبائل العرب وغيرهم "اذهبوا فأنتم الطلقاء" وذلك يوم الفتح.
وروى أنس بن مالك رضي الله عنه قال:"كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد غليظ الحاشية فجذ به أعرابي بردائه جذبة شديدة حتى أثرت حاشية البرد في صفحة عنقه ثم قال: يا محمد احمل لي على بعيري هذين من مال الله الذي عندك فإنك لا تحمل لي من مالك ولا من مال أبيك!!!
فسكت عليه الصلاة والسلام ثم قال: المال مال الله وأنا عبده وأعطاه ما طلب، فهل هناك في الحلم والعفو في مثله صلى الله عليه وسلم.

جوده وكرمه صلى الله عليه وسلم
أما الجود والكرم والسخاء والسماحة فقد خلقت معه منذ أن نشأ عليه الصلاة والسلام، فقد فاق كل كرماء العرب والعجم ووصفه بذلك كل من عرفه: قال جابر رضي الله عنه: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء فقال: لا، وقال ابن عباس رضي الله عنه: كان عليه الصلاة والسلام أجود الناس بالخير وأجود ما يكون في رمضان. وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة.
وروى مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئاً قط إلا أعطاه، فأتاه رجل فسأله، فأمر له بغنم بين جبلين، فأتى قومه فقال: أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخاف الفاقة".

شجاعته صلى الله عليه وسلم
أما من أخبار شجاعته صلى الله عليه وسلم فقد حضر عليه الصلاة والسلام المواقف الصعبة وفرَّ الشجعان و الأبطال عنه غير مرة وهو ثابت لا يبرح ومقبل لا يدبر ولا يتزحزح وقال فيه بعض الصحابة: إنا كنا إذا اشتد البأس واحمرت الحدق اتقينا برسول الله صلى عليه وسلم فما يكون أحدٌ أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو وكان من أشد الناس يومئذ بأساً.
وقال ابن عمر: ما رأيت أشجع ولا أبحر ولا أجود ولا أرضى من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

زهده وتواضعه عليه الصلاة والسلام
وما جاء في زهده عليه الصلاة والسلام وتواضعه واختياره الدار الآخرة فكثير منها ما رواه البيهقي والترمذي وابن ماجه عن عبد الله أنه قال: اضطجع النبي صلى الله عليه وسلم على حصير فأثر الحصير بجلده، فجعلت أمسحه وأقول: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ألا أذنتنا فنبسط لك شيئاً يقيك منه تنام عليه فقال عليه الصلاة والسلام: "مالي وللدنيا، وما أنا والدنيا، إنما أنا والدنيا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها".
ومما يشهد على زهده عليه الصلاة والسلام أنه كان يمر الشهر والشهران ولا يوقد في بيت رسول الله نار فقالوا: ما كان طعامكم قالوا: الأسودان التمر والماء.
وأكبر شاهد على تقلله من الدنيا وإعراضه عن زهرتها أنه توفي عليه الصلاة والسلام ودرعه مرهونة عند يهودي ولم يترك قصراً ولا متاعًا كثيراً بل كان بيته متواضعاً ومتاعه في غاية التواضع وكان صلى الله عليه وسلم يوصي بترك التنعم كما في الحديث:" وإياك والتنعم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين".
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : لا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ ، إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ ، فَقُولُوا : عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ .
ومن تواضعه صلى الله عليه وسلم قوله : ( لا تفضلوني على يونس بن متى ، و لا تفضلوا بين الأنبياء ، و لا تخيروني على موسى . )
و قال للذي قال له : يا خير البرية : ذاك إبراهيم .

خوفه عليه الصلاة والسلام وطاعته لربه تعالى
أما شدة خوفه عليه الصلاة والسلام من الله شدة طاعته وعبادته فعلى قدر علمه بربه ولذلك تمدح ومدح نفسه بقوله:" أنا أعلمكم بالله وأشدكم لله خشية" معناه أنا أكثركم علمًا بصفات الله تعالى ومعرفة بأمور التوحيد والتنزيه والخشية لله تبارك وتعالى، وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، إني أرى مالا ترون وأسمع مالا تسمعون أطَّت السموات وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك ساجد".
ومعنى أطت صدر منها صوت من الحمل الذي عليها وفي هذا الحديث دليل على أن السماء مسكن للملائكة الكرام وليست مكاناً لله تعالى كما يظن المشبهة تعالى الله عن ذلك. وروى المغيرة بن شعبة قال: قام رسول الله عليه الصلاة والسلام حتى تورمت قدماه فقيل يا رسول الله أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك و ما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً".

طيب ريحه صلى الله عليه وسلم
وأما طيب ريحه فقد كان صلى الله عليه وسلم طيباً مطيباً من غير طيب وكانت رائحته الطيبة تفوح على أنواع العطور والطيب، روى مسلم عن أنس رضي الله عنه قال:"ما شممت شيئاً قط مسكاً ولا عنبرا أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن جابر بن سمرة أنه عليه الصلاة والسلام مسح خده قال: فوجدت ليده برداً وريحاً كأنما أخرجها من جؤنة عطار أي كيس العطر.
وكان عليه الصلاة والسلام سواء مس يده أو لم يمسها يصافح المصافح فيظل يومه يجد ريحها ويضع يده على رأس الصبي فيعرف من بين الصبيان بريحها، وروى البخاري: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يمر في طريق فيتبعه أحد إلا عرف أنه سلكه من طيبه صلى الله عليه وسلم.

حسن عشرته صلى الله عليه وسلم
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس عشرة وأوسع الناس صدراً وأصدقهم لهجة وقد وصفه بعض أصحاب قائلا: كان دائم البشر سهل الخلق لين الجانب ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب ولا فحاش ولا عياب.
قال الله تعالى {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} وكان يجيب من دعاه، ويقبل الهدية، قال أنس رضي الله عنه: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي "أف" قط وما قال لشيء صنعته لم صنعته ولا لشيء تركته لم تركته.
وقال جرير بن عبد الله رضي الله عنه "ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم قط منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم".
وكان صلى الله عليه وسلم يمازح أصحابه ويخالطهم ويحادثهم ويداعب صبيانهم ويجالسهم في حجره، ويجيب دعوة الحر والعبد والأمة والمسكين، ويعود المرضى في أقصى المدينة ويقبل عذر المعتذر ويبدأ من لقيه بالسلام ويبدأ أصحابه بالمصاحفة، وكان أكثر الناس تبسماً وأطيبهم نفساً ما لم ينزل عليه قرءان أو يعظ أو يخطب، وقال عبد الله بن الحارث: ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أنس رضي الله عنه قال: كان خدم المدينة يأتون فيها الماء فيغمس يده فيها للتبرك.
وكل هذا غيض كم فيض من الشمائل مما لا يستطاع حصره.
وحسبك في ذلك حسن عشرته لأهل بيته وأزواجه اللواتي ما شكت الواحدة منهن بل كن يروين عنه فضائل الأخلاق ومحاسن العشرة وكثرة الرحمة والشفقة وقد وصفه الله تبارك وتعالى بذلك بقوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} هذا وزد على ذلك معجزاته وأسراره وما خصه الله به من بين الأنبياء وتفضيله على جميع الرسل مع المكانة العالية له يوم القيامة إذ هو صاحب الشفاعة العظمى في ذلك اليوم العظيم وهو صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم كلهم كما روى الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم قال((أنا سيد ولد آدم القيامة ولا فخر)) وهو عليه الصلاة والسلام أول داخل إلى الجنة وهو صاحب المقام المحمود والدرجة الرفيعة والوسلية والفضيلة يوم القيامة، وأمته خير الأمم وأكثر الأمم أتقياء وفقهاء وعلماء وشهداء. والصلاة والسلام عليه أمر يحبه الله وشرعه الله في القرءان بقوله:((إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما )) فهو وسيلتنا إلى الله وهو شفيع المذنبين بإذن الله وهو صلى الله عليه وسلم النور وهو البركة العظمى حياً وميتاً، فقبره مقصد الزائرين وموضع البركات فهناك تذرف دموعهم شوقاً إليه عليه الصلاة والسلام.
عطر اللهم قبره الكريم *** بعرف شذي من صلاة وتسليم

رجاحة ووفور عقله :
أما وفور عقله ، وذكاء لبه ، وقوة حواسه ، وفصاحة لسانه ، واعتدال حركاته ، وحسن شمائله ـ فلا مرية أنه كان أعقل الناس وأذكاهم . ومن تأمل تدبيره أمر بواطن الخلق وظواهرهم ، وسياسة العامة والخاصة ، مع عجيب شمائله ، وبديع سيره ، فضلاً عما أفاضه من العلم ، وقرره من الشرع دون تعلم سبق ، ولا ممارسة تقدمت ، ولا مطالعة للكتب منه ، لم يمتر في رجحان عقله ، وثقوب فهمه لأول بديهة ، وهذا ما لا يحتاج إلى تقريره لتحقيقه .
وقد قال وهب بن منبه : قرأت في أحد وسبعين كتاباً ، فوجدت في جميعها أن النبي صلى الله عليه وسلم أرجح الناس عقلاً ، وأفضلهم رأياً . وفي رواية أخرى : فوجدت في جميعها أن الله تعالى لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلى انقضائها من العقل في جنب عقله صلى الله عليه وسلم إلا كحبة رمل من بين رمال الدنيا . ويكفيك من ذلك رجاحة عقله عندما حكم بين القبائل قبل البعثة عندما أرادوا إعادة بناء الكعبة فاختلفوا فيمن يرفع الحجر الأسود إلى مكانه فأشار عليهم أن يضعوه على عباءته وأن يمسك كل منهم بطرف منها ويرفعوه معاً وبذلك نالوا جميعهم شرف رفع الحجر الأسود .

وصف شامل
قال الحسن بن علي ـ و اللفظ لهذا السند : سألت خالي هند بن أبي هالة عن حلية رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ وكان وصافاً ـ وأنا أرجو أن يصفع لي منها شيئاً أتعلق به ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم فخماً مفخماً ، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر ، أطول من المربوع ، وأقصر من المشذب ، عظيم الهامة ، رجل الشعر ، إن انفرقت عقيقته فرق ، وإلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنه ، إذا هو وفره ، أزهر اللون ، واسع الجبين، أزج الحواجب ، سوابغ ، من غير قرن ، بينهما عرق يدره الغضب ، أقنى العرنين ، له نور يعلوه ، و يحسبه من لم يتأمله أشم ، كث اللحية ، أدعج ، سهل الخدين ، ضليع الفم أشنب ، مفلج الأسنان ، دقيق المسربة ، كأن عنقه جيد دمية في صفاء الفضة ، معتدل الخق ، بادناً ، متماسكاً ، سواء البطن والصدر ، مشيح الصدر ، بعيد ما بين المنكبين ضخم الكراديس ، أنور المتجرد ، موصول ما بين اللبة و السرة بشعر يجري كالحظ ، عاري الثديين ، م ا سوى ذلك ، أشعر الذراعين و المنكبين و أعالي الصدر ، طويل الزندين ، رحب الراحة ، شئن الكفين و القدمين ، سائل الأطراف ـ [ أو قال : سائن الأطراف ] ، سبط العصب ، خمصان الأخمصين ، مسيح القدمين ، ينبو عنهما الماء ، إذا زال زال تقلعا ، و يخطو تكفأً ، و يمشي هوناً ، ذريع المشية ، إذا مشى كأنما ينحط من صبب ، و إذا التفت التفت جميعاً ، خافض الطرف ، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء ، جل نظره الملاحظة ، يسوق أصحابه ، و يبدأ من لقيه بالسلام .
قلت : صف لي منطقه .
قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم متواصل الأحزان ، دائم الفكرة ، ليست له راحة ، و لا يتكلم في غير حاجة ، طويل السكوت ، يفتتح الكلام و يختمه بأشداقه ، و يتكلم بجوامع الكلم فصلاً ، لا فضول فيه و لا تقصير ، دمثاً ليس بالجافي و لا المهين ، يعظم النعمة و إن دقت ، لا يذم شيئاً ، لم يكن يذم ذواقاً ، و لا يمدحه ، و لا يقام لغضبه إذا تعرض للحق بشيء حتى ينتصر له ، و لا يغضب لنفسه و لا ينتصر لها ، إذا أشار أشار بكفه كلها ، و إذا تعجب قلبها و إذا تحدث اتصل بها ، فضرب بإبهامه اليمنى راحته اليسرى ، و إذا غضب أعرض و أشاح ، و إذا فرح غض طرفه ، جل ضحكه التبسم ، و يفتر عن مثل حب الغمام .
قال الحسن: فكتمتها الحسين بن علي زماناً ،ثم حدثته فوجدته قد سبقني إليه ، فسأل أباه عن مدخل رسول الله صلى الله عليه و سلم و مخرجه و مجلسه و شكله ، فلم يدع منه شيئاً .
قال الحسين : سألت أبي عن دخول رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقال : كان دخوله لنفسه مأذوناً له في ذلك ، فكان إذا أوى إلى منزله جزأ دخوله ثلاثة أجزاء : جزءاً لأهله ، و جزؤاً لنفسه ، جزأ جزأه بينه و بين الناس ، فيرد ذلك على العامة بالخاصة ، و لا يدخر عنهم شيئاً ، فكان من سيرته في جزء الأمة إيثار أهل الفضل بإذنه و قسمته على قدر فضلهم في الدين ، منهم ذو الحاجة ، و منهم ذو الحاجتين ، و منهم ذو الحوائج ، فيتشاغل بهم ، و يشغلهم فيما أصلحهم ، و الأمة من مسألته عنهم و إخبارهم بالذي ينبغي لهم ، و يقول : ليبلغ الشاهد منكم الغائب ، و أبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغي حاجته ، فإنه من أبلغ سلطاناً حاجة من لا يستطيع إبلاغها ثبت الله قدميه يوم القيامة . لا يذكر عنده إلا ذلك ، و لا يقبل من أحد غيره .
وقال في حديث سفيان بن وكيع : يدخلن رواداً ، ولا يتفرقون إلا عن ذواق ، و يخرجون أدلة ـ يعني فقهاء .
قلت : فأخبرني عن مخرجه كيف كان يصنع فيه ؟
قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يخزن لسانه إلا مما يعنيهم و يؤلفهم و لا يفرقهم ، يكرم كريم كل قوم ، و يوليه عليهم ، و يحذر الناس ، و يحترس منهم ، من غير أن يطوي عن أحد بشره و خلقه ، و يتفقد أصحابه ، و يسأل الناس ، و يحسن الحسن و يصوبه ، و يقبح القبيح و يوهنه ، معتدل الأمر غير مختلف ، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملوا ، لكل حال عنده عتاد ، لا يقتصر عن الحق ، و لا يجاوزه إلى غيره ، الذي يلونه من الناس خيارهم ، و أفضلهم عند أعمهم نصيحة ، و أعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة و موازرة .
فسألته عن مجلسه : عما كان يصنع فيه .
فقال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يجلس و لا يقوم إلا على ذكر ، و لا يوطن الأماكن ، و ينهى عن إيطانها ، و إذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ، و يأمر بذلك ، و يعطي كل جلسائه نصيبه حتى لا يحسب ، جليسه أن أحداً أكرم عليه فيه ، من جالسه أو قاومه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه . من سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول . قد وسع ا لناس ، بسطه و خلقه ، فصار لهم أباً ، و صاروا عنده في الحق سواء ، متقاربين متفاضلين فيه التقوى .
و في الرواية الأخرى : صاروا عنده في الحق سواء ، مجلسه مجلس حلم و حياء ، و صبر و أمانة ، لا ترفع فيه الأصوات ، و لا تؤبن فيه الحرم ، و لا تثنى فلتاته ، و هذه الكلمة ، من غير الروايتين .
يتعاطون فيه بالتقوى متواصفين ، يوقرون فيه الكبير ، و يرحمون الصغير ، و يرفدون ذا الحاجة ، و يرحمون الغريب .
فسألته عن سيرته صلى الله عليه و سلم في جلسائه .
فقال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم دائم البشر ، سهل الخلق ، لين الجانب ، ليس بفظ و لا غليظ ، و لا سخاب ، ولا فحاش ، ولا عياب ولا مداح ، يتغافل عما لا يشتهي ولا يوئس منه ، قد ترك نفسه من ثلاث : الرياء ، و الإكثار ، و ما لا يعنيه ، و ترك الناس من ثلاث : كان لا يذم أحداً ، و لا يعيره ، و لا يطلب عورته ، و لا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه ، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤسهم الطير ، إذا سكت تكلموا ، لا يتنازعون عنده الحديث . من تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ ، حديثهم حديث أولهم ، يضحك مما يضحكون منه ، و يتعجب مما يتعجبون منه ، و يصبر للغريب على الجفوة في المنطق ، و يقول : إذا رأيتم صاحب الحجة يطلبها فأرفدوه ، ولا يطلب الثناء إلا من مكافئ ، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يتجوزه فيقطعه بانتهاء أو قيام . هنا انتهى حديث سفيان بن وكيع .
و زاد الآخر : كيف كان سكوته صلى الله عليه و سلم ؟
قال : كان سكوته على أربع : الحلم ، و الحذر ، و التقدير ، والتفكير . فأما تقديره ففي تسوية النظر و الاستماع بين الناس ، وأما تفكره ففيما يبقى ويفنى . وجمع له الحلم صلى الله عليه وسلم في الصبر ، فكان لا يغضبه شيء يستفزه ، وجمع له في الحذر أربع : أخذه بالحسن ليقتدى به ، وتركه القبيح لينتهى عنه ، واجتهاد الرأي بما أصلح أمته ، والقيام لهم بما جمع أمر الدنيا و الآخرة . انتهى الوصف بحمد الله و عونه

بركاته عليه الصلاة والسلام
أما بركاته صلى الله عليه وسلم فهي كثيرة منها ما رواه جابر أنه عليه الصلاة و السلام أطعم يوم الخندق ألف رجل من صاع شعير وعناق(وهي الأنثى من أولاد المعز التي لم يتم لها سنة) وقال جابر: فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا وإن برمتنا لتغط كما هي وأن عجيننا لينجز.
وكان عليه الصلاة والسلام قد تفل في العجين والبرمة (والبرمة هي قدر من حجارة وتغط أي لها صوت من شدة غليانها) فانظر كيف جعل البركة فأكل هذا العدد من الرجال بصاع شعير وقليل من اللحم.
ومن بركاته أن سعيد بن النعمان أصيبت عينه فوقعت على وجنته فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت أحسن عينيه، وروي أن بعض الصحابة ابيضت عيناه فكان لا يبصر بهما شيئاً فنفث رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه فأبصر وصار يدخل الخيط في الإبرة وهو ابن ثمانين، وروي أن قدراً انكفأت على ذارع محمد بن حاطب وهو طفل فمسح عليها ودعا له فبرأ لحينه.
ومن بركاته أن العمى زال بدعوته وبركاته فلقد روى النسائي والطبراني عن عثمان بن حنيف أن أعمى قال: يا رسول الله ادع الله أن يكشف لي عن بصري، فعلمه عليه الصلاة والسلام أن يتوضأ ويصلي ركعتين ثم يقول "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد أني أتوجه بك إلى ربي" قال راوي الحديث: والله ما تفرقنا ولا طال بنا المجلس حتى عاد الرجل يبصر.وهذا الدعاء كان في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم .

الرحمة المهداة
قال تعالى (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )الأنبياء 107 لولاه لنزل العذاب بالأمة ولاستحققنا الخلود بالنار ولضعنا في مهاوي الرذيلة والفساد والانحطاط ( وما كان الله معذبهم وأنت فيهو وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ) فوجوده أمان لنا من النار ومن العذاب . قال ابن القيم في جلاء الأفهام : إنّ عموم العالمين حصل لهم النفع برسالته :
أمّا أتباعه : فنالوا بها كرامة الدنيا والآخرة .
وأمّا أعداؤه المحاربون له : فالذين عجّل قتلهم وموتهم خيرٌ لهم من حياتهم لأن حياتهم زيادة في تغليظ العذاب عليهم في الدار الآخرة ، وهم قد كتب الله عليهم الشقاء فتعجيل موتهم خير لهم من طول أعمارهم في الكفر .
وأمّا المعاهدون له : فعاشوا في الدنيا تحت ظلّه وعهده وذمته ، وهم أقل شرّاً بذلك العهد من المحاربين لهم .
وأمّا المنافقون : فحصل لهم بإظهار الإيمان حقن دمائهم وأموالهم وأهلهم واحترامها ، وجريان أحكام المسلمين عليهم .
وأمّا الأمم النائية عنه : فإن الله سبحانه وتعالى رفع برسالته العذاب العامّ عن أهل الأرض .
فأصاب كل العالمين النفع برسالته . انتهى
قال أبو بكر بن طاهر : زين الله تعالى محمداً صلى الله عليه و سلم بزينة الرحمة ، فكان كونه رحمة ، و جميع شمائله و صفاته رحمة على الخلق ، فمن أصابه شيء من رحمته فهو الناجي في الدارين من كل مكروه ، و الواصل فيهما إلى كل محبوب ، ألا ترى أن الله يقول : (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )، فكانت حياته رحمة ، و مماته رحمة ، كما قال عليه السلام : حياتي خير لكم و موتي خير لكم و كما قال عليه الصلاة و السلام : إذا أراد الله رحمة بأمة قبض نبيها قبلها ، فجعله لها فرطاً و سلفاً . و قال السمرقندي : رحمة للعالمين : يعني للجن و الإنس . و قيل : لجميع الخلق ، للمؤمن رحمة بالهداية ، و رحمة للمنافق بالأمان من القتل ، ورحمة للكافر بتأخير العذاب . قال ابن عباس رضي الله عنهما : هو رحمة للمؤمنين وللكافرين ، إذ عوفوا مما أصاب غيرهم من الأمم المكذبة .
وحكى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل عليه السلام : هل أصابك من هذه الرحمة شيء ؟ قال : نعم ، كنت أخشى العاقبة فأمنت لثناء الله عز وجل علي بقوله : ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين [ سورة التكوير / 81 : الآية 20 ـ 21 ] .
و روي عن جعفر بن محمد الصادق ـ في قوله تعالى : فسلام لك من أصحاب اليمين . أي بك ، إنما وقعت سلامتهم من أجل كرامة محمد صلى الله عليه و سلم .
عن أبي بردة بن أبي موسى ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أنزل الله علي أمانين لأمتي ، وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار . و قال عليه السلام : أنا أمان لأصحابي . قيل : من البدع . و قيل : من الاختلاف و الفتن . قال بعضهم : الرسول صلى الله عليه و سلم هو الأمان الأعظم ما عاش ، و ما دامت سنته باقية فهو باق ، فإذا أميتت سنته فانتظر البلاء و الفتن .

علو منزلته ورفعة مكانته وذكره
قال القاضي عياض في كتاب الشفا : قال تعالى (ورفعنا لك ذكرك) قال يحيى بن آدم : بالنبوة (أي رفع اللهُ للنبي ذكرَه بالنبوة) . وقيل : إذا ذكرت ذكرت معي قول : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله . وقيل : في الأذان [ 8 ] . قال القاضي أبو الفضل : هذا تقرير من الله جل اسمه لنبيه صلى الله عليه وسلم على عظيم نعمه لديه ، وشريف منزلته عنده ، وكرامته عليه ، بأن شرح قلبه للإيمان والهداية ، ووسعه لوعى العلم ، وحمل الحكمة ، ورفع عنه ثقل أمور الجاهلية عليه ، وبغضه لسيرها ، وما كانت عليه بظهور دينه على الدين كله ، وحط عنه عهدة أعباء الرسالة والنبوة لتبليغه للناس ما نزل إليهم ، وتنويهه بعظيم مكانه ، وجليل رتبته ، ورفعه و ذكره ، وقرانه مع اسمِه اسمَه . قال قتادة : رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا يقول : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أتاني جبريل عليه السلام ،فقال : إن ربي و ربك يقول : تدري كيف رفعت ذكرك ؟ قلت : الله ورسوله أعلم . قال : إذا ذكرتُ ذكرتَ معي . قال ابن عطاء : جعلت تمام الإيمان بذكري معك . وقال أيضاً : جعلتك ذكراً من ذكرى ، فمن ذكرك ذكرني . وقال جعفر بن محمد الصادق : لا يذكرك أحد بالرسالة إلا ذكرني بالربوبية . وأشار بعضهم في ذلك إلى الشفاعة . ومن ذكره معه تعالى أن قرن طاعته بطاعته واسمه باسمه ، فقال تعالى : أطيعوا الله والرسول . وآمنوا بالله ورسوله ، فجمع بينهما بواو العطف المشركة . ولا يجوز جمع هذا الكلام في غير حقه عليه السلام .
قال الله تعالى : لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون [ سورة الحجر / 15 : الآية 72] . اتفق أهل التفسير في هذا أنه قسم من الله جل جلاله بمدة حياة محمد صلى الله عليه و سلم ، و أصله ضم العين ، من العمر ، و لكنها فتحت لكثرة الاستعمال . و معناه : و بقائك يا محمد و قيل : و عيشك . و قيل : و حياتك . و هذه نهاية التعظيم ، و غاية البر و التشريف . قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما خلق الله تعالى ، و ما ذرأ ، و ما برأ نفساً ـ أكرم عليه من محمد صلى الله عليه و سلم ، و ما سمعت الله تعالى أقسم بحياة أحد غيره .
وقال أبو الجوزاء : ما أقسم الله تعالى بحياة أحد غير محمد صلى الله عليه و سلم ، لأنه أكرم البرية عنده .
وقال جعفر بن محمد : من تمام نعمته عليه أن جعله حبيبه ، وأقسم بحياته ، ونسخ به شرائع غيره ، وعرج به إلى المحل الأعلى ، وحفظه في المعراج حتى ما زاغ البصر وما طغى ، وبعثه إلى الأحمر والأسود ، وأحل له ولأمته الغنائم ،وجعله شفيعاً مشفعاً،وسيد ولد آدم ، وقرن ذكره بذكره ، ورضاه برضاه ،وجعله أحد ركني التوحيد. 

وإنك لعلى خلق عظيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على الهادي البشير ، وعلى آله وصحبه أجمعين ..
فالسيرة العطرة ، سيرة خير البرية ، معين لا ينضب ، وينبوع صافٍ متدفق ، يرتوي من نميره كل من أراد السلامة والنجاة ، إنها شمس ساطعة ، وسناً مشرق ، ومشعل وضاء ، يبدد ظلمات الانحراف ، ويهدي سبيل الرشاد .
سأكتب عن أربعين عاماً من حياة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه .
أربعون عاماً كلها صفاء ونقاء .
أربعون عاماً تكلمت فيها الفطرة ، وتجلت فيها الصفات الحميدة ، وظهرت فيها العناية الربانية ، في إعداد سيد البرية .
أربعون عاماً هُيّأ العظيم فيها لأمر عظيم ، لتكون تلك الأربعين هي بداية التغيير للعالم السفلي من ظلمات الكفر والجهل إلى نور التوحيد والعلم .
أربعون عاماً فيها أفراح وأتراح ، وآمال وآلام { وكان الله عليما حكيما } .
ابتدأت تلك الأربعين بـ :

(1) ولادة يتيمة !!
توفي الوالد قبل الولادة ، بعد سعي في طلب لقمة العيش ، ليكون على موعد مع القدر في أرض يثرب ، مقبورا في أحد مقابرها !!
وأُودع الوالد والزوج الثرى ، لتعاني الوالدة الحنون آلام الوضع ، وآلام الفقد ، وآلام مستقبل طفل تيتم قبل خروجه للدنيا !!
وتأتي ساعة الصفر وتستبشر الدنيا بـ :

(2) ولادة محمد - صلى الله عليه وسلم - :
فيولد سيد المرسلين بشعب بني هاشم ، في صبيحة يوم الاثنين التاسع من شهر ربيع الأول ، لأول عام من حادثة الفيل ، وقبل هجرته عليه الصلاة والسلام بثلاث وخمسين سنة ، ويوافق ذلك العشرين أو الثاني والعشرين من شهر إبريل سنة ( 571 م ) ، حسبما ذكره بعض المحققين .
وفي مكان آخر بعيدا عن ذلك البيت الصغير الذي وُلد به ذلك العظيم :
وقف رجل يتأمل السماء والنجوم ، فإذا الأمر مختلف عن العادة ، فالآية قد ظهرت !!
فما كان منه إلا أن صرخ بقومه :
" يا معشر اليهود !!! "
فاجتمعوا إليه فقال : " طلع نجم أحمد الذي وُلد به في هذه الليلة " .
نعم .. لقد وُلد أحمد ، وها هو بين أحضان أمه ترضعه وتشاركها في ذلك : أم أيمن ، وثويبة مولاة أبي لهب .
وتمر الأيام .... وإذا بالرضيع في :

(3) ديار بني سعد :
فانتقل مع أمه حليمة السعدية لترضعه في مضارب بني سعد بن بكر ، على عادة العرب في التماس المراضع لأولادهم ، لتقوى أجسامهم ، ويتقنوا اللسان العربي من صغرهم .
وفي تلك المضارب نشأ محمد الصغير ..
وبها وقف ومشى على قدميه ..
وبها ضحك ولعب مع أقرانه الصغار ..
فأي براءة وجمال كانت تشع من عيني ذلك الطفل الطاهر !!
فصلوات ربي وسلامه عليه .
وفي تلك المضارب رعى الغنم ، وسار خلفها وقادها مع إخوانه من الرضاع .
وتمر الأيام على رعاة الغنم الصغار ، ويبلغ الصغير أربع سنين ، وبينما هو يلعب مع الغلمان ، إذ به يصرع ويضجع من رجلين عليهما ثياب بيض ، لينطلق المنادي إلى أمه بنداء الرعب والخوف : " لقد قُتل محمد!!! " .
فكان ذلك القتل هو :

(4) شق الصدر :
لقد أضجعه الرجلان ، ثم أخرجا منه علقة سوداء فألقياها ، فانتهت حظوظ الشيطان منه ، ثم غسلا قلبه في طست من ذهب بماء زمزم ، ثم أعادا قلبه إلى مكانه ، فجاء الصغير إلى القوم وهو منتقع اللون . يقول أنس رضي الله عنه : ( وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره ) .
فلما رأت حليمة ذلك : خافت على الصغير من أن يصيبه شيء ، فاتخذت قرارا بـ :

(5) رده إلى أمه الحنون :
فرجع الصغير إلى أحضان أمه ترعاه وتحنو عليه ، فكان عندها حتى بلغ ست سنين ،
لتتحرك عاطفة آمنة وشوقها إلى حيث توفي الزوج ويقطن الأهل ، فعزمت على السفر إلى يثرب ، فتحركت المطايا ، ومكثت شهرا في يثرب ، ليحين بعد ذلك وقت الرجوع ، وفي طريق السفر بين يثرب ومكة : توقفت المطايا في مكان يحمل في طياته ذكرى لا تزال عالقة بذاكرة الحبيب حتى بعد النبوة ، فمرّ يوما على قبر فانتهى إليه وجلس ، وجلس الناس حوله ، فجعل يحرك رأسه كالمخاطب – كما يروي ذلك بريدة رضي الله عنه – ثم بكى بكاء لم يبكه من قبل ، فاستقبله عمر فقال :
يا رسول الله ما يبكيك ؟
فقال : ( هذا قبر آمنة بنت وهب ) !!
لقد توقفت المطايا في مكان يقال له الأبواء ، ليكون الصغير على موعد جديد مع اليتم ، وتؤخذ آمنة منه ، وتوارى بين ناظريه ، لينتقل الطفل باكيا إلى :

(6) جده عبد المطلب :
عاد صغير الآلام إلى الجد العطوف ، الذي رق له رقة شديدة ، فكان لا يدعه وحيدا ، بل جعله مقدما على أولاده وبنيه .
إن لعبد المطلب فراشا لا يجلس عليه غيره إجلالا له واحتراما ، فكان محمد الصغير هو الوحيد المصرح له بالجلوس ، فيأتي الأولاد والأبناء ليُبعدوه ، فيقول الجد :
" دعوه ، والله إن لهذا شأنا " !!!

وتمر الأيام ويبلغ الصغير ثمان سنين ، ليكون على موعد جديد مع الآلام ،
فها هو عبد المطلب يوارى الثرى ، لتكون وصيته الأخيرة ، أن يكون الصغير عند :

(7) عمه أبا طالب :
فنهض باليتيم على أكمل وجه ، وضمّه إلى بنيه وقدمه عليهم ، واختصه بمزيد احترام وتقدير .
وتمر الأيام ... ويأتي على قريش سنون عجاف ، أجدبت لها الأرض ، وكاد يهلك بها القوم ، فبات الناس في شظف من العيش ، فما كان من قريش إلا أن طلبوا من سيدهم أبا طالب أن يستسقي لهم ، فكان :

(8) أبيض يُستسقى الغمام بوجهه :
خرج أبو طالب يستسقي ، والسماء ما فيها من قزعة !! ومعه الغلام الصغير –صلى الله عليه وسلم- وبنيه ، فأخذ أبو طالب الغلام اليتيم الصغير - وهو يتذكر كلمات عبد المطلب : ( والله إن لهذا شأنا ) !! – فألصق ظهره بالكعبة واستسقى .
فأقبل السحاب من كل جانب ، وانفجرت السماء بماء منهمر ، فقال أبو طالب :
وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه --- ثِمالُ اليتامى عصمة للأرامل

وتمر الأيام ... ويبلغ النبي الكريم اثنتي عشرة سنة ، وفي صيف حار تحركت ركائب قريش نحو الشام ، فكانت قصة :

(9) بُحيرى الراهب :
فارتحل أبو طالب بقومه ومعه محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فلما وصلوا إلى بُصرى نزل القوم للراحة ، فخرج إليهم بحيرى ولم تكن من عادته الخروج إليهم ، فتخللهم حتى جاء إلى الفتى الصغير وأخذ بيده وقال :
هذا سيد العالمين !! هذا رسول رب العالمين !! هذا يبعثه الله رحمة للعالمين !! .
فقال أبو طالب وأشياخ قريش : وما علمك بذلك ؟
فقال : إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجر ولا شجر إلا خرّ ساجدا ، ولا يسجدان إلا لنبي ، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة ، وإنّا نجده في كتبنا " .
ثم سأل أبا طالب ألا يذهب به إلى الشام خوفا عليه من الروم واليهود ، فرده أبو طالب بغلمان معه إلى مكة .

وتمر الأيام ... وقد شبّ النبي الكريم ، ولم يكن له عمل معين في أول شبابه . ولكن جاءت الروايات وتوالت بأن مهنته كانت :

(10) رعي الغنم :
لقد كان يسير طوال نهاره خلف الغنم ، فرعاها في بني سعد ابتداءً ، ثم في مكة على قراريط لأهلها .
إن مهنة كهذه يُشترط لها أمانة مع طول نفس ، ولذا : ( ما من نبي إلا وقد رعى الغنم ) ، ولعل ذلك – والله أعلم - : لأن صورة القطيع شبيهة بسير سواد الأمم ، والراعي قائد يتطلب عليه أن يبحث عن الأماكن الخصبة والآمنة ، كما يتطلب ذلك حماية وحراسة لما قد يعترض قافلة السير .
وهذه المهنة فيها ما فيها من قسوة ومتابعة ، إلا أنها تُثمر قلبا عطوفا رقيقا ، وواقع حال رعاة الغنم خير شاهد على ذلك .
وبعيدا عن العمل وهمومه ، وبعيدا عن كدح البحث عن لقمة العيش نقف مع :

(11) نوازع نفس محمد صلى الله عليه وسلم :
يحدثنا النبي الكريم عن نفسه في تلك الفترة فيقول :
( ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يهمون به من النساء ، إلا ليلتين ، كلتاهما عصمني الله تعالى منهما ، قلت ليلة لبعض فتيان مكة – ونحن في رعاية غنم أهلنا – فقلت لصاحبي : أبصر لي غنمي حتى أدخل مكة ، فأسمر فيها كما يسمر الفتيان . فقال : بلى .
فدخلت حتى إذا جئت أول دار من دور مكة سمعت عزفا بالغرابيل والمزامير . فقلت :
ما هذا ؟ فقيل : تزوج فلان فلانة . فجلست أنظر ، وضرب الله على أذني ، فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس . فرجعت إلى صاحبي ، فقال : ما فعلت ؟ فقلت : ما فعلت شيئا ، ثم أخبرته بالذي رأيت . ثم قلت له ليلة أخرى : أبصر لي غنمي حتى أسمر بمكة . ففعل ، فدخلت ، فلما جئت مكة سمعت مثل الذي سمعت تلك الليلة ، فسألت . فقيل : فلان نكح فلانة ، فجلست أنظر ، وضرب الله على أذني ، فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس ، فرجعت إلى صاحبي فقال : ما فعلت ؟ قلت : لا شيء ، ثم أخبرته بالخبر ، فوالله ما هممت ولا عدت بعدها لشيء ، حتى أكرمني اله بنبوته ) .
إنها الرعاية الربانية ، تقف للحيلولة بينه وبين تلك النوازع ، ولذلك جاء في الأثر :
( أدبني ربي فأحسن تأديبي ) .
وتمر الأيام ... ليبلغ النبي الكريم عشرون عاما ، ليشهد حربا وقعت في شهر حرام ، فتُسمى بـ :

(12) حرب الفِجَار :
وقعت تلك الحرب سوق عكاظ بين قريش ومعهم كنانة وبين قيس عيلان ، فاصطف القوم ووقعت حرب ضروس ، وكان النبي الكريم يجهز النبل للرمي ، وكثُر القتل في الطرفين ، حتى رأى عقلاء القوم أن وضع أوزار الحرب والاصطلاح خير من الملحمة ، فهدموا ما بينهم من العداوة والشر ، وعلى أثر ذلك حصل :

(13) حلف الفضول :
إنه حلف الخير والعدالة ، تداعت إليه قبائل من قريش في ذي القعدة ، وكان اجتماعهم في دار عبد الله بن جدعان التيمي ، فتعاهدوا وتعاقدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه ، وشهد هذا الحلف النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم - ، وقال عنه بعد أن أكرمه الله بالنبوة : ( لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ، ولو أُدعى به في الإسلام لأجبت ) .
ولا عجب في ذلك ، فهو نبي العدالة والرحمة ..
وتمضي الأيام ... ويبلغ النبي الكريم الخامسة والعشرين من عمره ، ليخرج إلى :

(14) تجارة الشام :
وذلك في مال لخديجة بنت خويلد ، بعد أن سمعت بأخبار الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم ، وجعلت معه غلام لها يُقال له : ميسرة .
ذهب النبي الكريم إلى الشام ، فما لبث أن رجع إلى مكة ، فرأت خديجة في مالها من الأمانة والبركة ما لم تره من قبل ، وحدّثها ميسرة بما رآه من حال الصادق الأمين ، فما كان منها إلا أن سعت ليكون الخبر في أرجاء مكة :

(15) محمد – صلى الله عليه وسلم – زوج لخديجة – رضي الله عنها - !!
وذلك بعد أن تقدم لها سادات قريش ، فكان الإباء عليهم هو الجواب .
ثم لمّا رأت ما رأت بعد تلك التجارة المباركة : عزمت على نية أفصحتها لصديقتها : نفيسة بنت منبه . فقامت بدورها بذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم . فرضي بذلك ، إلا أن والد خديجة حاول عبثا الوقوف أمام هذا الزواج الميمون ، إلا أن حيلة خديجة كانت حَكَمَاً قاضيا في الموضوع ، فما الذي فعلته خديجة ؟
يروي لنا ابن عباس رضي الله عنهما ذلك فيقول :
" إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر خديجة – وكان أبوها يرغب عن أن يزوجه - ، فصنعت طعاما وشرابا ، فدعت أبوها وزمرا من قريش ، فطعموا وشربوا حتى ثملوا . فقالت خديجة لأبيها : إن محمدا بن عبد الله يخطبني فزوجني إياه . فزوجها إياه . فخلقته وألبسته حلة – وكذلك كانوا يفعلون بالآباء -، فلما سرى عنه سكره ، نظر فإذا مخلق وعليه حلة ، فقال : ما شأني هذا ؟ قالت خديجة : زوجتني محمد بن عبد الله . قال : أُزوّج يتيم أبي طالب !؟ لا لعمري . فقالت : أما تستحي ؟! تريد أن تسفه نفسك عند قريش ، تخبر الناس أنك كنت سكران !! فلم تزل به حتى رضي " .
ويتزوج الشريف الشريفة ، وتمر الأيام والأعوام على ذلك البيت الهادئ الجميل ، ويُرزق منها بالبنين ، والنبي الكريم يُقري الضيف ، ويعين الملهوف ، وينصر المظلوم ، ويكون في حاجة أهله ..
ويجرف مكة سيل عرم وينحدر إلى البيت فيُصدّع جدرانه حتى أوشك على الوقوع والانهيار ، فاتفقت قبائل قريش على :

(16) إعادة بناء الكعبة :
وتبني قريش الكعبة بشرط مسبوق : " ألا يدخل في بنائها إلا طيبا ، فلا يدخل فيها مهر بغي ، ولا بيع ربا ، ولا مظلمة لأحد من الناس " .
ويشارك النبي الكريم صاحب الخمس وثلاثين عاما في البناء ، ويحمل الحجارة من الوادي مشاركا قومه في مثل هذا الحدث العظيم .
ويرتفع البناء ، ويعود للبيت جلاله وهيبته ، ولما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود حصل الاختلاف ، وتنازع القوم في شرف وضع الحجر الأسود أربع ليال أو خمس حتى كادت الحال أن تتحول إلى حرب ضروس !! إلا أن أبا أمية بن المغيرة المخزومي عرض عليهم أن يحكموا فيما شجر بينهم أول داخل عليهم من باب المسجد . فارتضى القوم ذلك .
فإذا بمحمد بن عبد الله بن عبد المطلب يكون ذلك الداخل . فهتف القوم : أن رضينا بالأمين .
فطلب عليه الصلاة والسلام رداءً فوضع الحجر وسطه ، وطلب من رؤساء القبائل المتنازعين أن يمسكوا جميعا بأطراف ذلك الرداء ، وأمرهم أن يرفعوه ، حتى إذا أوصلوه إلى موضعه أخذه بيده فوضعه في مكانه . فرضي القوم بذلك ، وانتهى نزاع كادت دمائه أن تصل إلى الركب !!

وتمر الأيام ... وغربة النبي الكريم تزداد يوما بعد يوم ، فوجوه يعرفها ، وأحوال ينكرها ، كان ذا صمت طويل يزدان بالتأمل والنظر ، لقد كانت تلك الفطرة التي جُُبل عليها تمنعه من أن ينحي لصنم ، أو يهاب وثن .
فاعتزل القوم لما رأى من سفاهة أحلامهم ، وتفاهة عقولهم ، فكان عليه الصلاة والسلام لا يحضر عيدا لوثن ، ولا يشهد احتفالا عند صنم ، ولا يحلف بالاّت ، ولا يتقرب لعزى ، ولا يشرب خمرا ، ولا يأكل مذبوحا على نُصب ، فأبغض ذلك كله . يقول مولاه
زيد بن حارثة رضي الله عنه : " ... فوالذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب ما استلم صنما حتى أكرمه الله بالذي أكرمه وأنزل عليه " .
فكان عليه الصلاة والسلام موحدا على ملة إبراهيم الخليل عليه السلام .
لقد جمع الصادق الأمين من الأوصاف والشمائل ما جعلت محبته لا تقف عند البشر ، بل تتعداه إلى الحجر والشجر ، يقول عليه الصلاة والسلام بعد أن أكرمه الله بالرسالة : ( إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث ) !! .
فصلوات ربي وسلامه عليه .

وتمر الأيام ... حتى بدأ طور جديد من حياته صلى الله عليه وسلم ، فكان يرى الرؤية ثم لا يلبث حتى يراها واقعا مشهودا أمامه ، فكان ذلك بداية بشرى النبوة والرسالة والاصطفاء ، لتكون البداية الحقيقة في الغار بـ { أقرأ باسم ربك الذي خلق } ، وينادي المنادي في أصقاع المعمورة : إن محمدا قد بُعث !!

فإذا عقارب السنين والأعوام قد دقت الأربعين !!
فصلوات ربي وسلامه عليه ...
 
تلك الأربعون – لعمر الحق - : عراقة الخلال ، فكيف بما بعد الأربعين ، حين بُعث إلى العالمين !!{ وإنك لعلى خلق عظيم } ..
 

الايام العشر

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الإسلام هو دين الله الحق الذي بعث به الله جميع الأنبياء والمرسلين ، ديناً واحداً لهداية البشرية مدى الزمن كله . وبعث الله الرسول الخاتم محمداً صلى الله عليه وسلم مصدّقاً للرسالات قبله ومهيمناً عليها ، وأنزل عليه الكتاب قرآناً عربيّاً جامعاً لكل ما جاءت به الرسل ، وهادياً للبشرية إلى يوم القيامة .

إنّ الإسلام المفصّل بالكتاب والسنة نهج متكامل متناسق مترابط ، ونور ممتد مع الدهر ، وصراط مستقيم ، يفصِّل التكاليف الربانيّة التي وضعها الله عهداً وميثاقاً في عنق كل مسلم ، على الإنسان الفرد ، وعلى الأمّة كلها ، وعلى كل مستوى من مستوياتها . وجاء هذا كله على صورة معجزة لا يستطيع أحد من الإنس والجن أن يأتي بمثله ولو اجتمعوا له ، إنه كتاب الله القرآن العظيم :
( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) [ الإسراء :88]
وهذا إعجاز ممتد مع الدهر كله . ومن آيات هذا الإعجاز في كتاب الله أنه يهـدي للتي هي أقوم ، ويحمل البُشْرى للمؤمنين الصادقين الذي يعملون الصالحات :
( إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ) [ الإسراء :9]
وهذا الإعجاز في كتاب الله والبيان الذي يهدي للتي هي أقوم يبرز جليّاً في تكامله وترابطه وتناسقه ، ولا يرضى الله سبحانه وتعالى من عباده أن يأخذوا ببعضه ويتركوا بعضه ، ولا أن يخلطوه مع غيره مما سبق وأنزله الله على رسله السابقين ، فهو جامع بإعجازه ذلك كله :
( ... أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) [ البقرة :85]
نعم ! هذا الخطاب في هذه الآية الكريمة كان موجهاً إلى بني إسرائيل ولكنه خطاب ممتد في حكمه مع الزمن كله ، ومع ما أنزل الله على رسله ، وما أنزله على رسوله النبيّ الخاتم مصدّقاً لما قبله ومهيمناً عليه . ففضائل الإسلام في الرسالة الخاتمة بخاصة متماسكة كلها يشدّ بعضُها بعضاً ، ويبقى أثرها ممتدّاً في حياة الإنسان بهذا التماسك والترابط ، ويبرز بذلك هديه لما هو أقوم ، ولما يحمل للمؤمنين الذين يعملون الصالحات من بشائر ، صراطاً مستقيماً ونهجاً موصولاً .

ويعرض هذا الدين في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم آيات بيّنات وأحاديث شريفة تبرز عظمة الأيام العشر من ذي الحجة ، لتذكّر كلها بامتداد العمل الصالح وتجديده ، والتوبة وتجديدها ، والذكر والدعاء ! ولقد عظمت منزلة الأيام العشر من ذي الحجة عند الله ، حتى أقسم بها في كتابه الكريم .
( وَالْفَجْرِ . وَلَيَالٍ عَشْرٍ . وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ . وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ . هَلْ فِي ذَٰلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ) [ الفجر :1ـ5]
والليالي العشر مرتبطة ممتدة مع الفجر ومع الليل إذا يسر ، وكأنه امتداد مع الدهر كله ابتداءً من الفجر وامتداداً مع الليل الذي يسري في هذا الدهر كله .

إن الله سبحانه وتعالى ، حين يبيّن لنا أهميـة هذه الأيام العشر وعظيم فضلها ، لا يريد من عباده أن يذكروه ويسبحوه في هذه الأيام العشر ، حتى إذا انتهت نسوا ذلك بعدها كما كانوا قد نسوه قبلها . فالله سبحانه وتعالى يريد أن تظل العبادة والذكر في حيـاة الإنسان كلها حسب ما يفصّله في الكتاب والسنة ، ممتدة مع العمر كله : فشهر رمضان له فضله ، والصلاة المفروضة لها فضلها ، إلا أن الأيام العشر من ذي الحجة جمعت ذلك كله فضلاً من الله سبحانه وتعالى ! لقد جمعت هذه الأيام العشر شعائر العبادة وأنواع البر ، جمعت الصلاة والصيام والحج والصدقـات والذكر والتكبير والتهليل والتلبية . إنها كلها تمتد في حياة المسلم ، وتجتمع في هذه الأيام العشر ، لتجعل لها فضلها المتميز عند الله ، ولتمتدَّ إلى ما بعد الحج ، نهج حياة ممتدّاً ، ينشر الخير في حياة البشرية ، وينشر الصلاح والفضائل والعمل الصالح ، والذكر كله .

إنه نهج حياة أمة مسلمة ، يريدها الله أن تحمل هذا الخير كله للبشرية على هدْيٍ من هذا الدين العظيم ، الذي يظل يذكّر الإنسان بالتكاليف والشرائع ، ويقرع القلوب طوال العام بالذكر والصلاة والصيام ، من فرائض ونوافل ، ثمَّ يأتي شهر رمضان المبارك ، ثم تأتي الأيام العشر لتجمع ذلك كله مع شعائر الحج ، نهج حياة للإنسان والبشريّة تحمله الأمة المسلمة لتبني للبشرية حياة صالحة ما استمسكت بهذا الدين العظيم .

وإذا كان " الذكر " مطلوباً في الأيام كلها ، فتأتي أيام العشر من ذي الحجة لتؤكِّد أهمية ذكر الله :
( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ) [ الحج :228]
فذكر الله في حياة المؤمن ماض قبل الحج وبعده ، ولكن الثواب عليه في عشر ذي الحجة أعظم ، لتؤكد هذه الأيام المباركة أهمية الذكر وعظيم ثوابه .

وفيها يوم عرفة ، يوم الحج الأكبر ، حيث يَجتمع حجاج الأمة المسلمة من مشارق الأرض ومغاربها في صعيد واحد ، ليتذكَّر المسلم أن من أهم قضايا هذا الدين هو هذه الأمة المسلمة الواحدة التي لا يقوم عزّها وقوّتها إلا بهذا التلاحم أمة واحدة كالجسد الواحد ترتبط برابطة أخوة الإيمـان ، وتتبرّأ من العصبيات الجاهلية . وتظل شعائر الحج كلها تؤكد على هذا التلاحم بين المسلمين ليكونوا أمة واحدة ، وصفّاً واحداً كالبنيان المرصوص .

وما أحوج المسلمين اليوم إلى أن يتذكروا هذا الأمر وأنهم أمة واحدة بدلاً من أن يكونوا ممزّقين حدوداً وأقطاراً ، ومصالح وأهواء ، وقوانين بعيدة عن شرع الله تزيدهم فرقةً وتمزّقاً .

إن كل يوم من أيام عشر ذي الحجة لتذكِّر المسلم بأُمته الواحدة التي هي حاجة أساسية للبشرية كلها :
( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ۚ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ )
[ آل عمران :110]
نعم ! خير أمة أخرجـت للناس ، للناس كافّة ، للبشرية تحمل الهدي والنور ، وكل شعيرة من شعائر الحج ، وكذلك كل شعيرة من شعائر الإسلام لتؤكد خطورة هذه القضية ، قضية الأمة المسلمة الواحدة في أرضها وشرعها ودينها وكل أمورها .
( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ . وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) [ آل عمران : 103ـ105]

إن أيام الحج أيام عشر ذي الحجة ، هي أيام تذكير وتوعية ، فليقف المسلم فيها مع نفسه ، ولتقف جموع الحج كذلك مع نفسِها لتتساءل : أين خالَفَتْ شرع الله ولماذا نزل عليها الهوان والذلة في هذه المرحلة من حياتها ؟!
وإن أعظم ما توحي به شعائر الحج كلها ، ويوم الحج الأكبر ، يوم عرفة ، أن واجب المسلمين في شرع الله أن يكونوا أمة واحدة وصفّاً واحداً ، تحمل رسالة الله إلى الناس كافة : " وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ويؤمنون بالله .." إنه أمر الله لعباده المؤمنين أن يبلّغوا رسالة الله إلى الناس كافّة كما أُنْزِلتْ على محمد صلى الله عليه وسلم ويتعهَّدوهم عليها ، تبليغاً وتعهّداً منهجيين حتى يُُحقّقَ التبليغ والتعهد الهدف الأسمى بأن تكون كلمةُ الله هي العليا .

إن يوم الحج الأكبر ، يوم عرفة ، يوم جليل عظيم في تاريخ الإسلام والمسلمين ، يوم تبرز فيه الأمة المسلمة الواحدة صفّاً واحداً تعبد ربّاً واحداً ، يلبُّون جميعهم تلبية واحدة : لبيكَ اللهم لبّيك ، لبّيك لا شريك لك لبّيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك ! صوت واحد ودعاء واحد ، تدوّي به آفاق الدنيا ، إلا الذين سُدّت آذانهم بالضلالة والفتنة والكفر ، فأصمهم الله وأعمى أبصارهم .

وتمضي جميـع جموع الحجيج مع كل شعائر الحج أمة واحدة وصفّاً واحداً ، دعاءً واحداً وذكراً لله واحداً ، لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد !
حتى إذا انتهت شعائر الحج وأخذ حجاج بيت الله يغادرون إلى أقطارهم الممزّقة المتناثرة ، فهل تبقى صورة الموقف في عرفة وفي سائر شعائر الحج ، صورة الأمة المسلمة الواحدة راسخة في القلوب ، أم تأخذ هذه الصورة تغيب ، وتعود إلى القلوب جميع أنواع العصبيات الجاهلية ، فتتقطّع روابط أُخوة الإيمان التي أمر الله بها ، وتعود الحياة إلى طريقها السابقة ، ويتفلّت الناس أو بعض الناس من شعائر هذا الدين .

يجب أن يشعر المؤمن بعد أدائه شعائر الحج وعودته إلى بلده بالفارق بين حالتين : أمة مسلمة واحدة في الحج ، وشعوب متفرّقة متفلتة بعد الحج ، تقطعت فيها الروابط وغابت بعض الشعائر ، وبرزت دعوات جاهلية متعددة تنفث سمومها في ديار المسلمين . يجب أن يشعر المؤمن بهذا الفارق الكبير حتى يدرك مدى مسؤوليته في بناء الأمة المسلمة الواحدة .

من أجل هذه القضية الخطيرة ، قضية الأمة المسلمة التي أمر الله عباده المؤمنين أن يكونوا عليها ، من أجل هذه القضية التي تبرز أكثر ما تبرز في أيام الحج كلها ، وفي شعائره كلها ، ومن أجل معاني التوحيد الخالص لله سبحانه وتعالى ، التوحيد الذي تؤكده كل شعيرة في الحج وكل دعاء وكل تلبية ، من أجل هذه القضايا الرئيسة في الإسلام ، كانت أيام الحج أعظم عند الله من غيرها ، ففيها ذكر وتذكير ، وربط وتوثيق ، ودعاء وصلاة وصيام وصدقة ، كل ذلك من أجل أن يكون المسلمون أمة واحدة تعبد ربّاً واحداً توحّده ولا تشرك به !

ولذلك كما نرى جاء حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يرويه ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام ! قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال : ولا الجهاد في سبيل الله ، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء " [ أخرجه البخاري ]
إنها نعمة كبيرة من الله سبحانه وتعالى على عباده المؤمنين أن رزقهم نعمة أيام الحج ليتسابق المؤمنون إلى العمل الصالح يعبدون به ربّاً واحداً ، ويلتقون أمة واحدة ، وصوتاً واحداً يدوّي بالتكبير والتهليل والدعاء والتسبيح ، والصلاة والصيام وأداء جميع مناسك الحج بقلوب خاشعة لا تحمل رياءً ولا شركاً !
وعندما يحرص المسلم على اغتنام هذه الأيام العظيمة وفضلها الكبير ، فإنه يحرص على مجاهدة النفس لإصلاحها وتطهيرها بالطاعات المشروعة المسلمة ، حريصاً على عزّتها وقوتها ، طاعةً لله وصدقاً في إيمانه وعبادته ، فتمتد الروابط بين المؤمنين ، بين القلوب الخاشعة الصادقة مع ربّها ، وتُبنى أسس القوة والعزّة لهذا الدين العظيم ولأمته وجنوده الصادقين ، وهم صفٌّ واحد .

لذلك جاء حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" صيام يوم عرفة يُكَفّر سنتين : ماضية ومستقبلة ، وصوم عاشوراء يكفر سنة ماضية " [ أخرجه أحمد ومسلم والترمذي](1)
وقال البخاري : كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما . وكان عمر رضي الله عنه يكبر في قبّته بِمنى ، فيسمعه أهل المسجد فيكبرون ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيراً . ويحسن بالمسلم أن يحرص على التكبير الجماعي ما أمكنه ذلك ، وأن يجهر بالتكبير ويرفع صوته به .

ويستحب في هذه الأيام العشر القيام بكل الأعمال الفاضلة مثل تلاوة كتاب الله ودراسته وتدبره ، والاستغفار والتوبة ، وبر الوالدين وصلة الأرحام ، واطعام الطعام ، وإفشاء السلام ، كل عمل طيب صالح ، حتى تتأكد مع كل عمل وحدة الأمة المسلمة ، وتستقرّ في قلب كل مسلم على أنها قاعدة رئيسة في دين الله الإسلام ، وذلك كله حتى تكون كلمة الله هي العليا في الأرض ، حين يؤدّي المسلمون الأمانة التي وضعها الله في أعناقهم ، ليكونوا خير أمة أُخرجت للناس ، وليبلغوا رسالة الله كما أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم ويتعهدوهم عليها ، وفاءً بالعهد والأمانة التي سيحاسبون عليها بين يدي الله يوم القيامة !

عشر ذي الحجة

بسم الله الرحمن الرحيم

*من فضل الله سبحانه أن شرع لعباده مواسم طاعات ليتزودوا من الأعمال الصالحات.
فبعد أن انقضى شهر الصيام والست من شوال جاءت العشر المباركات..
فمن تكاسل عن القيام بعد رمضان وفتر عن تلاوة القرآن ولوى يده عن العطاء والإحسان فقد قدُم موسم من مواسم الطاعات.
فيا لسعادة من سابق فيه بالخيرات (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب(

س: لماذا سمي شهر ذي الحجة (بُرَك)؟
-سُمي بهذا الاسم لما فيه من كثرة طرق الخير للمؤمن من حج وأضحية وصيام وذكر..
ولا يتأتى هذا كله في شهر غيره.

س:كيف يستقبل المسلم عشر ذي الحجة؟
-يستقبلها بالنية الصادقة للإجتهاد في الطاعة والبعد عن المعصية محبة لله وخوفاً ورجاء وإجلالاً وحياء منه.
فهو سبحانه أهلٌ أن يستحيَ منه.
قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال (أوصيك أن تستحي من الله كما تستحي من رجل صالح من قومك(
كيف لا يستحي المسلم من ربه خاصة أنه في شهر من الأشهرالحرم (فلا تظلموا فيهن أنفسكم(؟
قال ابن القيم: "من استحى من الله عند معصيته استحى الله من عقوبته يوم يلقاه"
ومن لم يستح من معصيته لم يستح الله من عقوبته.

*فضل عشر ذي الحجة:
قال صلى الله عليه وسلم (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام)
قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: (ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء).
الله أكبر!
الجهاد ذروة سنام الإسلام ، والعمل الصالح في هذه الأيام أحب إلى الله منه إلا من خرج للجهاد فقُتل وسُلب ماله.

*ما يستحب فعله في أيام العشر:
١-الحج: قال صلى الله عليه وسلم(الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة.(

س:من هم أفضل الحجاج؟
-قال ابن القيم:إنّ أفضل أهل كل عمل أكثرهم فيه ذكراً لله عز وجل، فأفضل الصوام أكثرهم ذكراً لله، وأفضل المتصدقين أكثرهم ذكراً لله ،وأفضل الحجاج أكثرهم ذكراً لله، وهكذا سائر الأعمال.

٢-الصيام: قال النووي: "يستحب صيامها استحباباً شديداً."
وقد ورد في فضل الصيام قوله صلى الله عليه وسلم (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله بينه وبين النار سبعين خريفاً(

**يتأكد صيام يوم عرفة لقوله صلى الله عليه وسلم( يُكفّر السنة الماضية والباقية.(
- علينا أن نحث الصغار على صيامه فالصغير تُكتب حسناته ولا تُكتب سيئاته.
- يؤجر الصغير على صيامه وكذا من أعانه على الصيام.

*موقف مؤثر:
زرت منذ سنوات-قبيل العشر- جيراناً لي،فإذا(جدة) أهل البيت وهي امرأة كبيرة صوامة قوامة بدأ(الخرف) يدب إليها، فنصح الطبيب أهلها بأن تدع الصيام لأن ذلك يؤثر على خلايا المخ التي بدأت تتآكل. فاتفقوا وزوّارها أن لا يخبروها عن قرب العشر، بل قالوا لها: إنه ليس هذا زمانها فقد تبقى عليها شهر كامل.
العجيب أنها -والخرف بدأ يخطو إليها- فتارة تعرف أبناءها وأخرى لا تعرفهم أنها تسأل كل من يزورها(متى العشر؟) لتصومها!!

٣-التكبير:
والتهليل: لقوله صلى الله عليه وسلم (فأكثروا فيهن من التهليل والتكبيروالتحميد)
كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما.
والمستحب أن يجهر الرجل بالتكبير وكذلك المرأة إذا لم يكن هناك رجال أجانب.
**ولتذكير نفسك وغيرك بالتكبير: ما أجمل أن تكتب على ورقة وتعلق في أنحاء متفرقة في البيت، العمل..

**ورد عن الصحابة صيغ للتكبير:
- الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيراً
- الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد.

*يشرع في أيام العشر التكبير المطلق في
جميع الأوقات من ليل أو نهار إلى صلاة العيد.
ويشرع التكبير المقيد وهو الذي يكون بعد الصلوات المكتوبة:
-يبدأ لغير الحاج من فجر يوم عرفة.
-وللحجاج من ظهر يوم النحر ويستمر إلى صلاة العصر آخر أيام التشريق.
قال ابن الجوزي: "بذكر الله تستنير القلوب وتحيا، فكل غافل عن ذكر الله فهو في ظلام".

**أيهم أفضل أيام عشر ذي الحجة أم العشر الأواخر من رمضان؟
-قال بعض أهل العلم:
-أيام عشر ذي الحجة أفضل
لقوله صلى الله عليه وسلم(ما من أيام أحب إلى الله من هذه الأيام..)
-وليال عشر رمضان الأخيرة أفضل لاشتمالها على ليلة القدر.

٤-الصدقة: سميت بهذا الاسم لأنها تدل على صدق العبودية لله.
والجمع بين الصيام والصدقة وعيادة المريض وتشييع الجنازة(والأخيرة خاصة بالرجل)من موجبات الجنة كما ورد في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم(من أصبح منكم اليوم صائماً)

٥-قراءة القرآن، قال صلى الله عليه وسلم (اقرؤا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه)
قال ابن القيم: "إنّ محبة الله تنور الوجه وتشرح الصدر وتحيي القلب وكذلك محبة كلام الله، وإذا أردت أن تعلم ما عندك من محبة الله فانظر إلى محبة القرآن من قلبك"
فلتكن لنا ختمات في هذه الأيام المباركة قربة لله.
قال خباب: "تقرب إلى الله ما استطعت، فإنك لن تتقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه".

٦-الدعاء وخاصة يوم عرفة: الافتقار إلى الله هو عين العبودية؛ فانطرح بين يدي المجيب واسأله قضاء حوائجك، لائذاً بجنابه محسناً الظن به، موقناً بعطائه.
فالدعاء يغير الأحوال: الشقي يسعد والحزين يفرح والضعيف يقوى والمريض يشفى والفقير يرزق والمظلوم ينصر..

*** يوم النحر(يوم عيد الأضحى):
يرى بعض أهل العلم: أنه أفضل أيام السنة على الإطلاق لقوله صلى الله عليه وسلم(أفضل الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القر)

٧-الأضحية: وهي سنة مؤكدة،قال صلى الله عليه وسلم(ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إراقة الدم وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها، وإن الدم ليقع عند الله بمكان قبل أن يقع من الأرض، فطيبوا بها نفساً)
وقد نحر صلى الله عليه وسلم بيده(٦٣) وأفضلها: الإبل-البقر-الغنم.

**من السنن يوم العيد:
- التبكير للصلاة-أن يرجع من طريق آخر غير الذي جاء منه إقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وتكثيراً لسواد المسلمين وإظهاراً للعزة بهذا الدين .
- أن لا يأكل إلا من أضحيته.
- من أراد أن يضحي عن نفسه أو عن نفسه وأهل بيته أو ميته فيحرم عليه أن يأخذ شيئاً من شعره أو أظفاره أو جلده حتى يذبح أضحيته لقوله صلى الله عليه وسلم(إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره).

س:هل للمرأة التي نوت الأضحية أن تغسل شعرها وتمشطه؟
-قال بن جبرين:" لا بأس بغسل الشعر وتمشيطه برفق،ولا يضر لو سقط منه شعر، ولا ينقص أجر الأضحية إن شاء الله"

*ختاماً:
هذا مختصر عن (فضل عشر ذي الحجة وما يستحب فيها من الأعمال)
تذكيراً لنفسي ولغيري، لتشحذ الهمة وتقوى العزيمة..
جعلنا الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه..
وصلّ اللهم وسلم على نبينا محمّد.